فإذا خالَفَ سبَبُ النُّزولِ سياقَ الآياتِ انقطعَت صِلَتُه بها، إلّا أن يَدخُلَ في عُمومِها. وقد كانَ الأمرُ كذلك في تفسيرِ ابنِ جريرٍ (ت: ٣١٠)، فهما مُتَّفِقانِ مُطلَقاً، مُتعاضِدان في بيانِ المعنى بلا تَخالُفَ، فإذا وقعَ شيءٌ مِنْ ذلك فالسّياقُ اللَّفظيُّ أَثْبَتُ وأقطَعُ، ومِن ثَمَّ كانَ السّياقُ عند ابنِ جريرٍ (ت: ٣١٠) أعظمُ مُؤَثِّرٍ في الحُكمِ على الأسبابِ قبولاً ورَدّاً، وفي التَّرجيحِ بينها، ثُمَّ يأتي بعده مِنْ وجوهِ التَّرجيحِ ما يأتي؛ كثُبوتِ الخبرِ، وشهودِ الصَّحابيِّ، ونحوِ ذلك. (١)
ومِن شواهدِ ذلك قولُه في قولِه تعالى ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: ٦٥]: «واختلفَ أهلُ التأويلِ فيمَن عُنيَ بهذه الآيةِ، وفيمَن نزلَتْ؛ فقالَ بعضُهم: نزلَتْ في الزُّبيرِ بن العوّام وخَصْمٍ له مِنْ الأنصارِ، اختصَما إلى النَّبي ﷺ في بعضِ الأُمورِ .. ، وقالَ آخرون: بل نزلَت هذه الآيةُ في المُنافقِ واليَهوديِّ اللَّذَيْن وصفَ الله صِفَتَهما في قولِه ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ﴾ [النساء: ٦٠] .. ، وهذا القَولُ أَولى بالصَّوابِ؛ لأنَّ قولَه ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ [النساء: ٦٥] في سياقِ قِصَّةِ الذين ابتَدأَ الله الخبرَ عنهم بقولِه ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ [النساء: ٦٠]، ولا دلالَةَ تَدُلُّ على انقِطاعِ قِصَّتِهم، وإلحاقُ بعضِ ذلك بِبَعضٍ -ما لم تأتِ دلالَةٌ على انقِطاعِه-
(١) ينظر في أثرِ السياقِ على سببِ النُّزولِ: المحرر في أسباب النزول ١/ ١٨٠، ودلالةُ السياقِ القرآني ٢/ ٣٩٤.