الصوفية من المشرق ومن المغرب، وجاء الدعاة الحقيقيون والأدعياء المزيفون ينشرون أفكارهم وأورادهم بين الناس. وأصبحنا لا نكاد نجد مدينة أو قرية بدون العديد من الزوايا والأضرحة والمشاهد. وعند كل بناية أناس يتبركون ويدعون ويزورون ويتقربون، يقيمون الحضرة ويقدمون الهدايا ويذبحون الذبائح، آتين من كل فج. وأصبح المشاهد المحايد لا يعرف وهو أمام ذلك هل يشاهد مآدب أو مآتم، وهل العابدون يعبدون الله أو يعبدون الشيوخ والمرابطين. وهكذا غرقت الجزائر في هذا العهد في التصوف والدروشة فأصبح العلماء (الفقهاء) يتباهون بأخذ الطرق والأذكار والخرقة والسبحة والمصافحة والأسودين (التمر والماء)، وأصبح الحكام يظهرون كل الاحترام والتبجيل لأهل التصوف الحقيقي والكاذب معا. أما العامة فلا تسأل عن أحوالها وعقائدها ومستواها الخلقي والاجتماعي.
لكن بعض رجال الدين قد عارضوا بشدة تسلط العثمانيين بينما وقف بعضهم وسطا تارة يؤيدونهم كمسلمين مجاهدين، ما داموا عادلين، وتارة ينصحونهم عندما ينحرفون أو يسيئون الحكم. ومن الصنف الأول أحمد بن ملوكة التلمساني. فقد قيل إنه اطلع على ما ارتكب عروج عند احتلال تلمسان من فظائع. وبعد خروج عروج إلى جبال بني سناسن خاف أهل تلمسان من عودته والانتقام منهم من جديد فالتجأوا إلى الشيخ أحمد بن ملوكة واشتكوا له ما وقع بهم وما يخشون وقوعه، فانقبض الشيخ واشتد غضبه حتى ضرب الأرض بيده وهو يدعو:(اللهم لا تعده إلى تلمسان! إن اتكالنا عليك). وتذهب الرواية إلى أن الله قد استجاب إلى دعاء الشيخ، لأن
عروج قد مات مقتولا (١). وقد أشرنا من قبل إلى سخط الشيخ ابن للو على
(١) ابن عسكر (دوحة الناشر)، ٢٣٢، ويفهم من كلام ابن سليمان في (كعبة الطائفين) أن معظم المرابطين في تلمسان ونواحيها كانوا ضد الأتراك. ومنهم شيخه موسى اللالتي ناظم قصيدة حزب العارفين، والشيخ عبد الرحمن اليعقوبي دفين زاويته بندرومة، فقد أخبر عنه (أي اليعقويى) أنه زار أبا مدين بتلمسان وسأله (إبدال دولة الأتراك من آل يافث لكثرة جورهم) وأن أبا مدين كلمه من قبره قائلا (إن قبلتها يا =