للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قال: كنت أخرج إلى الجبانات، فأترحم على أهل القبور، وأتفكر وأعتبر، وأنظر إليهم سكوتًا لا يتكلمون، وجيرانًا لا يتزاورون، وقد صار لهم من بطن الأرض وطاء، ومن ظهرها غطاء، وأنادي: يا أهل القبور، مُحِيتْ من الدنيا آثارُكم، وما مُحيت عنكم أوزاركم، وسكنتم في دار البلى فتورمت أقدامكم، ثم يبكي بكاء شديدًا، ثم يميل إلى قبة فيها قبر (١)، فينامُ في ظلها، قال: فبينما أنا نائم إلى جنب القبر إذ أنا بحس مقمعة يُضربُ بها صاحبُ القبر، وأنا أنظر إليه، والسلسلة في عنقه، وقد ازرقّت عيناه، واسودّ وَجهه، وهو يقول: يا ويلي! ماذا حَلّ بي لو رآني أهل الدنيا ما ارتكبوا معاصي الله أبدًا، طُولبتُ والله باللّذات فأوبقتني، وبالخطايا فأغرقتني، فهل من شافع لي؟ أو مخبر أهلي بأمري.

قال الحارث: فاستيقظتُ مرعوبًا، وكاد أن يخرج قلبي من هول ما رأيت، فمضيتُ إلى داري، وبتُّ ليلي، وأنا متفكر فيما رأيت، فلما أصبحت قلتُ: دعني أعد (٢) إلى الموضع؛ لعلي أجد به أحدًا من زُوّار القبُور، فأعُلمه بالذي رأيت، قال: فمضيتُ إلى المكان الذي كنتُ فيه بالأمس، فلم أرَ أحدًا، فأخذني النومُ فنمت، فإذا أنا بصاحب القبر، وهو يسحب على وجهه ويقول: يا ويلتاه! ماذا حلّ بي ساء في الدّنيا عملي، وطال فيها أجلي حتى غضب عليّ ربُّ الأرباب، فالويلُ لي إن لم يرحمْني ربيّ.


(١) لا يجوز بناء القباب على القبور وتشييدها.
(٢) في الأصل: "أعود" والصواب ما أثبتناه.