للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث / الرقم المسلسل:

الإِسلام مولود أشأم على أهل الإِسلام منه".

وفي هذا الخبر: جرير بن عبد الحميد. قال الخطيب عنه: "كان يروي الموضوعات ويفسد أحاديث الناس" (١). ومنها أقوال كثيرة منسوبة لبعض العلماء، فيها الطعن الشديد على أبي حنيفة وآرائه، لكنها بأسانيد واهية لا تثبت أمام النقد العلمي.

ثم لو فرض صحة هذه الأخبار أو بعضها إلى قائليها. فغايتها أنها أقوال لأقرانه ومعاصريه، الذين حسدوه لذكائه وفطنته، ولما أعطاه الله من حسن الاستنباط والفقه في المسائل، التي جعلت الناس يلتفون حوله، ويستفتونه، ويأخذون برأيه، حتى ذاعت سمعته، وطارت في الآفاق شهرته، ندب في قلوب البعض، داء الأمم السابقة: الحسد والبغضاء، فحسدوه وأبغضوه، وربما قالوا فيه وقت الغضب كلمات تلقفها المغرضون والجهلة، فزادوا فيها ونقصوا، وصَحَّفُوا فيها وحرفوا، ونقلوها إلى المؤرخين والأخباريين، فدونوها وسجلوها على أنها أخبار وصلت إليهم، لا على أنها حقائق لا يتطرق إليها الشك.

وقد تقرر في علم المصطلح، أن قول الأقران في بعضهم لا يقبل، ولو كان كل منهم إمامًا ثقة ثبتًا، يقبل قوله وحديثه، كما أن قول المخالف في المذهب أو الاعقاد، لا يقبل فيمن خالفه، وكذلك قول من يكون بينهم بغضاء أو عداوة، لسبب من الأسباب.

وبناءً على هذا، فلم يقبل الأئمة قول: مالك في محمّد بن إسحاق، إنه دجال الدجاجلة ولا قول ابن معين في الشافعي: إنه ليس بثقة، ولا قول عكرمة في سعيد ابن المسيب، ولا كلام ابن أبي ذئب في الإمام مالك، ولا كلام أهل المدينة في أهل العراق جملة.

وقد عقد ابن عبد البر في جامع بيان العلم، بابًا جيدًا جدًّا في هذا الموضوع، سماه "باب حكم قول العلماء بعضهم في بعض"، استهله بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دب إليكم داء الأمم قبلكم، الحسد والبغضاء هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، تحلق الدين ... " (٢).

ثم نقل كلام ابن عباس: "استمعوا علم العلماء، ولا تصدقوا بعضهم على بعض، فوالذي نفسي بيده، لهم أشد تغايرًا من التيوس في زربها".

ثم عقب على ذلك بكلام جامع طيب له فقال: "هذا باب قد غلط فيه كثير من الناس، وضلت به نابتة جاهلة لا تدري ما عليها في ذلك، والصحيح في هذا الباب، أن من صحت عدالته، وثبتت في العلم إمامته، وبانت ثقته وعنايته بالعلم، لم يلتفت فيه إلى قول أحد، إلا أن يأتي في جرحته ببينة عادلة، تصح بها جرحته على طريق الشهادات، والعمل فيها من المشاهدة والمعاينة لذلك بما يوجب قوله من جهة الفقه والنظر. وأما من لم تثبت إمامته، ولا عرفت عدالته، ولا صحت لعدم الحفظ والإتقان روايته، فإنه ينظر


(١) تاريخ الخطيب: رقم الترجمة (٣٧٤٤).
(٢) انظر هذا الباب وتفصيلاته، في جامع بيان العلم: (٢ / من ص ١٨٤ - ٢٠٠).