للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث / الرقم المسلسل:

النخعي، وأصحاب ابن مسعود. إلَّا أنه أغرق وأفرط في تنزيل النوازل، هو وأصحابه، والجواب فيها برأيهم واستحسانهم. فأتى منه من ذلك خلاف كبير للسلف، وشنع هي عند مخالفيهم بدع. وما أعلم أحدًا من أهل العلم إلا وله تأويل في آية، أو مذهب في سنة، رد من أجل ذلك المذهب سنة أخرى، بتأويل سائغ أو ادعاء نسخ: إلَّا أن لأبي حنيفة من ذلك كثيرًا، وهو يوجد لغيره قليل" (١).

أقول: إي والله، صدق ابن عبد البر، فقد أفرط أصحاب الحديث في ذم أبي حنيفة، وتجاوزوا الحد في ذلك، فهذا الليث بن سعد يحيى على الإِمام مالك سبعين مسألة، كلها مخالفة لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، حتى إنه كتب إليه في ذلك؛ روى ذلك عنه ابن عبد البر المالكي في كتابه "جامع بيان العلم" فقال:

"وقد ذكر يحيى بن سلام قال: سمعت عبد الله بن غانم في مجلس إبراهيم بن الأغلب، يحدث عن الليث بن سعد أنه قال: أحصيت على مالك بن أنس سبعين مسألة، كلها مخالفة لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، مما قال مالك فيها برأيه. قال: ولقد كتبت إليه في ذلك" (٢).

ثم قال ابن عبد البر، معقبًا على رواية الليث هذه وعلى ما ذكر عن أبي حنيفة من ردهما لبعض الأحاديث، أو مخالفتهما لبعض أحاديث وردت في السنة:

"وليس لأحد من علماء الأمة، يثبت حديثًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يرده، دون ادعاء نسخ عليه بأثر مثله، أو إجماع، أو يعمل يجب على أصله الانقياد إليه، أو طعن في سنده". ثم قال:

"ولو فعل ذلك أحد، سقطت عدالته، فضلًا عن أن يتخذ إمامًا، ولزمه إثم الفسق" (٣). ثم قال ابن عبد البر: "ونقموا أيضًا على أبي حنيفة، الإرجاء، ومن أهل العلم من ينسب إلى الإرجاء كثر، لم يُغْنَ أحد بنقل تبيح ما قيل فيه، كما عنوا بذلك في أبي حنيفة لإمامته. وكان أيضًا مع هذا يحسد وينسب إليه ما ليس فيه، ويختلق عليه ما لا يليق، وقد أثنى عليه جماعة من العلماء وفضلوه. ولعلنا، إن وجدنا نشطة أن نجمع من فضائله وفضائل مالك أيضًا، والشافعي، والثوري، والأوزاعي، كتابًا أملنا جمعه قديمًا في أخبار أئمة الأمصار إن شاء الله" (٤).

ونقل ابن عبد البر بسنده إلى أبي حنيفة، فقال: "قيل لأبي حنيفة: المحرم لا يجد الإزار، يلبس السراويل قال لا, ولكن يلبس الإزار. قيل له: ليس له إزار، قال: يبيع السراويل ويشتري بها إزارًا، قيل له: فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب وقال: "المحرم يلبس السراويل إذا لم يجد الإزار". فقال أبو حنيفة: لم يصح في هذا عندي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأفتي به، وينتهي كل امريء إلى ما سمع، وقد صح عندنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يلبس المحرم


(١) جامع بيان العلم: (٢/ ٣٨١).
(٢) جامع بيان العلم: (٢/ ١٨٢).
(٣) المصدر السابق: (٢/ ١٨٢).
(٤) جامع بيان العلم: (٢/ ١٨٢). وقد وفى ابن عبد البر بالنسبة للأئمة الثلاثة، مالك، والشافعي، وأبي حنيفة، فألف في مناقبهم كتابه: (الانتقاء).