للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث / الرقم المسلسل:

المبيضة على المسودة، فقتل" (١).

فقد وصل الأمر بالفزاري أن يستعين بالأئمة، ليطعن في أبي حنيفة، فينسب إليهم القول، ثم يكلمه من عنده، وهل يعقل أن يصدر مثل هذا القول من إمامين جليلين، وقد ورد: "لا شؤم في الإِسلام". كما ورد: "لا شؤم إلا في ثلاث" وأبو حنيفة ليس من تلك الثلاث. وعلى فرض أن الشؤم يوجد في غير تلك الثلاث الواردة في الحديث، وأن أبا حنيفة مشؤوم، فمن أين الأوزاعي والثوري معرفة أنه في أعلى درجات الشؤم؟ ومعرفة أشأم المشؤومين في هذه الأمة لا تكون إلا بوحي، وقد انقطع زمن الوحي! .

وكلمة أخيرة في هذا الفصل، وهي أن الذي يرجع إلى كتب الفقه الحنفي في هذا الباب، وإلى ما ذكره الإِمام أبو جعفر الطحاوي الحنفي المتوفى سنة (٣٢١ هـ)، يرى خلاف ما نقله الخطيب عن أبي حنيفة، في هذه الأخبار التالفة.

فهذا أبو جعفر الطحاوي يقول في عقيدته، التي ذكر فيها عن أبي حنيفة وأصحابه ما كانوا يعتقدونه من أصول الدين، ويدينون به رب العالمين ما نصه: "ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا، وإن جاروا. ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يدًا من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عَزَّ وَجَلَّ فريضة، ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة".

ثم لو علم أبو جعفر المنصور، بأن أبا حنيفة يدعو الناس ويفتيهم بالخروج عليه، لما تلكأ لحظة في القبض عليه وقتله، ولما أمهله، ولقد قتل ابن هبيرة وولده، قبل أن يجف مداد العهد الذي كتب بينهما، كما غدر بأبي مسلم الخراساني وقتله، لمجرد التخوف أن تسول له نفسه بشيء، من الثورة في المستقبل، حتى إنه لم يتورع عن قتل عمه عبد الله بن علي، الذي ثار عليه، ثم هزم واحتمى بأخيه سليمان بن علي بالبصرة، وأعطاه المنصور الأمان حتى سلمه أخوه إياه، فحبسه وقتله بطريقة مريبة.

حتى إنه لما عرض الأمان على محمد بن عبد الله، جمع هذا مخازي أماناته، وكتب إليه: "أما أمانك الذي عرضت، فأي الأمانات هو؟ أامان ابن هبيرة؟ أم أمان عمك عبد الله بن علي؟ أم أمان أبي مسلم؟ والسلام".

فقد ظهر كذب ما جاء في تلك الأخبار في هذا الفصل، من ضعف أسانيدها ومخالفتها للمعقول والمنقول في كتب مذهب أبي حنيفة، وحوادث التاريخ المشهورة.

وأما النقطة الخامسة: وهي -ما حكي عن أبي حنيفة من مستشنعات الألفاظ والأفعال- فقد أورد فيها الخطيب ثلاثة وثلاثين خبرًا، بأسانيد ضعيفة واهية.

أما الخبران الأول والثاني: فيتعلقان بموضوع أن أبا حنيفة يقول: إن الجنة والنار تفنيان، وفي سند الخبر الأول، الخزاز، وفي الثاني، ابن الرماح، وخبرهما غير مقبول.


(١) تاريخ الخطيب: (١٣/ ٣٩٩) المبيضة والمسودة على صيغة اسم الفاعل، الذين يلبسون البياض والسواد. وقد كان لبس البياض رمزًا للخارجين على العباسيين من أهل البيت، كما أن السواد كان شعار العباسيين. ثم صار لبس البياض رمزًا للخارجين على العباسيين مطلقًا.