هذا نبيل من المشايخ اذهب فاستكثر منه. قلت: هذا أبو حنيفة الذي نهيت عنه" (١).
فلما اجتمعا بمكة، جاراه في تلك المسائل، فكشفها له أبو حنيفة بكثر مما كتبها عنه ابن المبارك، ولما افترقا، قال الأوزاعي لابن المبارك: "غبطت الرجل بكثرة علمه ووفورة عقله. وأستغفر الله تعالى. لقد كنت في غلط ظاهر. الْزم ارجل، فإنه بخلاف ما بلغني عنه".
أقول: رحم الله الأوزاعي، فلقد كان منصفًا رجاعًا إلى الحق، وهذا والله شأن العلماء المخلصين.
هذا، وإن العنوان الذي عنون به الخطيب لهذه الأخبار وهو: "ذكر ما حكي عن أبي حنيفة من رأيه في الخروج على السلطان"، فيه تهويل ومبالغة، وتعميم وإبهام فليس في الأخبار التي ساقها تحت هذا العنوان، ما يفيد أن أبا حنيفة كان يدعو للثورة على الخلفاء، أو أنه أعلن هذا، وجُلُّ ما في هذه الأخبار، أن أبا إسحاق الفزاري، ادعى أن أبا حنيفة أفتى أخاه في الخروج لمؤازرة إبراهيم بن عبد الله الطالبي عندما استفتاه في ذلك.
وباقي الأخبار تفيد أن الأوزاعي كان يقول عن أبي حنيفة: "إنه كان يرى السيف في أمة محمَّد"، بعد أن جاءه الفزاري وأقنعه بأن أبا حنيفة كذلك -كما مر ولكن الأوزاعي تراجع عن ذلك لما رأى مسائل أبي حنيفة عند ابن المبارك، ثم لما اجتمع بأبي حنيفة في مكة المكرمة، وقد مر ذلك بنا مفصلًا.
والأخبار -كما ذكرت- كلها واهية الإسناد. ففي الخبر الأول، ابن درستويه، وأحمد بن عبيد بن ناصح، وغيرهما، وفي الثاني، أبو شيخ الأصبهاني، وهو عبد الله بن محمّد بن جعفر، وبقية الأخبار التي تتعلق بمقتل أخيه، وسخطه على أبي حنيفة بسبب فتياه إياه بالخروج.
وإن الناقد المنصف، لو سمع نص الخبر الثامن في هذا الفصل، لرأى عجبًا. إذ يدعي فيه صاحبنا الفزاري، أنه سمع سفيان الثوري والأوزاعي يقولان عن أبي حنيفة، إنه ما ولد في الإِسلام مولود أشام على هذه الأمة منه، ويزيد المرء عجبًا حينما يرى الفزاري يكمل الخبر من عنده، فيقول: وكان أبو حنيفة مرجئًا ويرى السيف، ثم يذكر قصة أخيه.
وأنا أسوق الخبر بتمامه، حتى يكون القارئ على بينة من ملابساته وتفصيلاته، قال الخطيب: "أخبرني علي بن أحمد الرزاز، أخبرنا علي بن محمد بن سعيد الموصلي، قال: حدثنا الحسن بن الوضاح المؤدب، حدثنا مسلم بن أبي مسلم الحرقي، حدثنا أبو إسحاق الفزاري قال: سمعت سفيان الثوري والأوزاعي يقولان: ما وُلدَ في الإِسلام مولود أشأم على هذه الأمة من أبي حنيفة، وكان أبو حنيفة مرجئًا يرى السيف. قال لي يومًا: يا أبا إسحاق أين تسكن؟ قلت: المصيصة، قال: لو ذهبت حيث ذهب أخوك كان خيرًا. قال: وكان أخو أبي إسحاق خرج مع