فيها، فكأنه كان في قلوبنا، وأنكرنا وجهه، وظن أنه وقعت مسألة معنتة، وإنا قد تكلمنا فيها بشيء، فقال: ما هي؟ قلنا كذا وكذا، فأمسك ساكتًا ساعة ثم قال: فما كان جوابكم فيها؟ قلنا: لم نتكلم فيها بشيء، وخشينا أن نتكلم بشيء فتنكره، فسري عنه وقال: جزاكم الله خيرًا، احفظوا عني وصيتي، لا تكلموا فيها ولا تسألوا عنها أبدًا، انتهوا إلى أنه كلام الله عزَّ وجلَّ بلا زيادة حرف واحد، ما أحسب هذه المسألة تنتهي حتى توقع أهل الإسلام في أمر لا يقومون له ولا يقعدون، أعاذنا الله وإياكم من الشيطان الرجيم" (١).
وجاء في الخبر الثاني من هذه الأخبار، أن أبا مُسْهر قال: "قال سلمة بن عمرو القاضي -على المنبر-، لا رحم الله أبا حنيفة، فإنه أول من زعم أن القرآن مخلوق".
أقول: ولفظ ابن عساكر في تاريخه "لا رحم الله أبا فلان، فإنه أول من زعم أن القرآن مخلوق"، ففي الخبر المسوق هنا تغيير (أبي فلان) إلى (أبي حنيفة). ومن أين علمنا أن أبا فلان في الرواية هو أبو حنيفة؟ مع تضافر الروايات على أن أول من قال بذلك، الجعد بن درهم.
هذا وكتب النحل مجمعة على أن أول من قال بأن القرآن مخلوق، هو الجعد بن درهم، ثم جهم بن صفوان، ثم بشر بن غياث، كما يظهر ذلك من كتاب "الرد على الجهمية" لابن أبي حاتم، وكتاب "شرح السنة" للحافظ اللالكائي. فقد جاء فيه: "ولا خلاف بين الأمة أن أول من قال: القرآن مخلوق، الجعد بن درهم، في سنة نيف وعشرين ومائة".
وأما من جهة السند، ففي الخبر الأول: محمّد بن العباس الخزاز، وقد تقدم بيان حاله، وفيه إسحاق بن عبد الرحمن، وهو مجهول.
والخبر الثاني: تقدم أن الرواية قد بدل فيها لفظ "أبي فلان"، بلفظ "أبي حنيفة".
والخبر الثالث: فيه أبو القاسم البغوي، قال ابن عدي عنه: "وجدت الناس، أهل العلم، والمشايخ مجمعين على ضعفه".
وفي الخبر الرابع: عمر بن الحسن الأشناني القاضي، متكلم فيه، وقد ضعفه الدارقطني، وكذبه الحاكم. وفيه أيضًا، عبد الملك بن قريب الأصمعي، كذبه أبو زيد الأنصاري.
وفي الخبر الخامس: قطن بن إبراهيم النيسابوري، رماه ابن عدي بسرقة الحديث، وفيه يحيى بن عبد الحميد، متكلم فيه، حتى قيل فيه: إنه كذاب.
وفي الخبر السادس: الحسن بن عبد الأول، قال أبو زرعة: "لا أحدث عنه" وقال أبو حاتم: "تكلم الناس فيه"، وقال الذهبي: "كذبه ابن معين".
وفي الخبر السابع: عمر بن الحسن الأشناني القاضي، ضعفه الدارقطني، وكذبه الحاكم -كما سبق-.
وفي الخبر الثامن: انقطاع في السند، كما أن فيه مجهولًا وهو (أبو محمد).
(١) الانتقاء: ص (١٦٥ - ١٦٦) وصدق أبو حنيفة فقد أوقعت فتنة القول بخلق القرآن أهل الإسلام في محنة رهيبة، صدّعت وحدتهم، وجعلتهم فرقًا يكفر بعضهم بعضًا.