فيا لها من بدع! كم ضيعت من أديان، وأنصبت من أبدان، أبعدت الشقة، وأحدثت الفُرقة. شعَّبت المسالك، وأوردت المهالك، إلا أن يتدارك المخلصين الرحمنُ الرحيم، وذلك الظن به سبحانه.
فكأني بيوم القيامة قد نزل نبأه، وانكشفت حقائقه، وحضر الموزونون وزنهم (هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت)[يونس ٣٠] فيرى العبد الذي أرهق نفسه بالبدع أن ما كان يفرح به كسراب بقيعة، وأن خبر الصادق المصدوق حقيقة لا مجاز! ففيم المخاطرة؟
وهكذا كانت المحكمات في زمان الأولين كثيرا، والمتشابهات قليلة يسيرا. فما زال علماء الصحابة يموتون، وينقص العلم، ويحدث الخلاف، وتقع من الحكيم الزيغة، ويتشبه بالعلماء الأصاغرُ، ويحدث الكذب في الحديث، والوهم في ثقات من الرواة، وتنقص السنن كالبيان بالعمل .. حتى كثرت المتشابهات ولم يعد يلوح من الدين الأول إلا الوميض .. وصدق الله ورسوله.
وليس عجبا أن يعجب النبي ﷺ من إيمان من آمن في زمان قلة العلم وكثرة الشبهات كما قال لأصحابه يوما: أي الخلق أعجب إيمانا؟ قالوا: الملائكة. قال: الملائكة كيف لا يؤمنون؟ قالوا: النبيون. قال: النبيون يوحى إليهم فكيف لا يؤمنون؟ قالوا: الصحابة قال: الصحابة مع الأنبياء فكيف لا يؤمنون؟ ولكن أعجب الناس إيمانا قوم يجيئون من بعدكم فيجدون كتابا من الوحي فيؤمنون به ويتبعونه، فهم أعجب الناس إيمانا، أو الخلق إيمانا اه [الصحيحة ٣٢١٥].
ولما كان عهد التابعين ترخص الناس، فأحدث بنو أمية في الأعمال ما لا يحصيه إلا الله من الأذان للعيد، والخطبة قبل الصلاة، والدراسة جماعة، والدعاء للخلفاء في المنابر، ورفع الأيدي في الجمعة .. وفُتِح باب الابتداع!
ثم جاء بنو العباس فأحدثوا في العقائد، ونجمت البدع في الظاهر والباطن، وتوالت الحوادث يرقق بعضها بعضا، كلما حدثت محدثة قيل: التي قبلها أرق منها وأهون! حتى ضعف ما كان يجده الناس من إنكار بدع العمل، وضعف اليقين بأن كل بدعة ضلالة! وهي سنة وعُبودَة باطنة، والمخالطة حجاب، تورث إلفَ