وَكَتَبَ الْمُقَوْقِسُ مِلْكُ الْقِبْطِ فِي جَوَابِ كِتَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَكَذَا: (إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ مِنَ الْمُقَوْقِسِ عَظِيمِ الْقِبْطِ، سَلَامٌ عَلَيْكَ أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ قَرَأْتُ كِتَابَكَ، وَفَهِمْتُ مَا ذَكَرْتَ فِيهِ وَمَا تَدْعُو إِلَيْهِ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ نَبِيًّا قَدْ بَقِيَ، وَقَدْ كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّهُ يَخْرُجُ بِالشَّامِ، وَقَدْ أَكْرَمْتُ رَسُولَكَ، اهـ. وَالْمُقَوْقِسُ هَذَا وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ لَكِنَّهُ أَقَرَّ فِي كِتَابِهِ: أَنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ نَبِيًّا قَدْ بَقِيَ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا فَهَذَانِ الْمَلِكَانِ مَا كَانَا يَخَافَانِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَجْلِ شَوْكَتِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ.
وَجَاءَ الْجَارُودُ بْنُ الْعَلَاءِ فِي قَوْمِهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَقَالَ: وَاللهِ لَقَدْ جِئْتَ بِالْحَقِّ، وَنَطَقْتَ الصِّدْقَ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَبِيًّا لَقَدْ وَجَدْتُ وَصْفَكَ فِي الْإِنْجِيلِ، وَبَشَّرَ بِكَ ابْنُ الْبَتُولِ، فَطُولُ التَّحِيَّةِ لَكَ، وَالشُّكْرُ لِمَنْ أَكْرَمَكَ، لَا أَثَرَ بَعْدَ عَيْنٍ، وَلَا شَكَّ بَعْدَ يَقِينٍ، مُدَّ يَدَكَ فَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّكَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ ثُمَّ آمَنَ قَوْمُهُ، وَهَذَا الْجَارُودُ كَانَ مِنْ عُلَمَاءِ النَّصَارَى، وَقَدْ أَقَرَّ بِأَنَّهُ قَدْ بَشَّرَ بِهِ ابْنُ الْبَتُولِ أَيْ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَظَهَرَ أَنَّ الْمَسِيحِيِّينَ أَيْضًا كَانُوا مُنْتَظِرِينَ لِخُرُوجِ نَبِيٍّ بَشَّرَ بِهِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَأَقُولُ: إِنَّ اللَّفْظَ الْعِبْرَانِيَّ الَّذِي قَالَهُ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَفْقُودٌ، وَاللَّفْظُ الْيُونَانِيُّ الْمَوْجُودُ تَرْجَمَةٌ لَكِنِّي أَتْرُكُ الْبَحْثَ عَنِ الْأَصْلِ، وَأَتَكَلَّمُ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ الْيُونَانِيِّ فَأَقُولُ: إِنْ كَانَ اللَّفْظُ الْيُونَانِيُّ الْأَصْلِ بيركلوطوس، فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ وَتَكُونُ بِشَارَةُ الْمَسِيحِ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَفْظٍ هُوَ قَرِيبٌ مِنْ مُحَمَّدٍ وَأَحْمَدَ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ قَرِيبَ الْقِيَاسِ بِالنَّظَرِ إِلَى عَادَاتِهِمْ لَكِنِّي أَتْرُكُ هَذَا الِاحْتِمَالَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ عَلَيْهِ إِلْزَامًا، وَأَقُولُ: إِنْ كَانَ اللَّفْظُ الْيُونَانِيُّ الْأَصْلِ باراكلي طوس كَمَا يَدَّعُونَ فَهَذَا لَا يُنَافِي الِاسْتِدْلَالَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْمُعَزِّي وَالْمُعِينُ وَالْوَكِيلُ عَلَى مَا بَيْنَ صَاحِبِ الرِّسَالَةِ أَوِ الشَّافِعِ كَمَا يُوجَدُ فِي التَّرْجَمَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَطْبُوعَةِ سَنَةَ ١٨١٦ وَهَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا تَصْدُقُ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَأَنَا أُبَيِّنُ الْآنَ أَنَّ الْمُرَادَ بالْفَارَقْلِيطِ النَّبِيُّ الْمُبَشَّرُ بِهِ أَعْنِي مُحَمَّدًا - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا الرُّوحُ النَّازِلُ عَلَى تَلَامِيذِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَوْمَ الدَّارِ الَّذِي جَاءَ ذِكْرُهُ فِي الْبَابِ الثَّانِي مِنْ كِتَابِ الْأَعْمَالِ، وَأَذْكُرُ ثَانِيًا شُبَهَاتِ عُلَمَاءِ الْمَسِيحِيَّةِ، وَأُجِيبُ عَنْهَا فَأَقُولُ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ أُمُورٌ: (١) إِنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ أَوَّلًا (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي فَاحْفَظُوا وَصَايَايَ) ثُمَّ أَخْبَرَ عَنِ الْفَارَقْلِيطِ. فَمَقْصُودُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْ يَعْتَقِدَ السَّامِعُونَ بِأَنَّ مَا يُلْقَى عَلَيْهِمْ بَعْدُ ضَرُورِيٌّ وَاجِبُ الرِّعَايَةِ، فَلَوْ كَانَ الْفَارَقْلِيطِ عِبَارَةً عَنِ الرُّوحِ النَّازِلِ يَوْمَ الدَّارِ لَمَا كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى هَذِهِ الْفِقْرَةِ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ مَظْنُونًا أَنْ يَسْتَبْعِدَ الْحَوَارِيُّونَ نُزُولَ الرُّوحِ عَلَيْهِمْ مَرَّةً أُخْرَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute