والجدة"، ولكنه في الوقت ذاته يميل إلى الشك في الشعر الذي يسرف صاحبه في الغريب، والشعر الذي يسرف صاحبه في السهولة واللين.
ويعرض للذين اتخذوا مبدأ البداوة في المعنى مذهبًا لالتماس أسباب الصحة والنحل في المعنى دون اللفظ، ثم يعقب عليه بأن "هذا المذهب ليس أقرب إلى الحق من المذهب الذي سبقه"؛ لأن العرب لم يكونوا كلهم أهل بادية؛ فقد كانت هناك حضارة في اليمن، وفي مدن الشماليين كمكة والمدينة والطائف، ويستمر فيقول، بأنه تبعًا لهذا المذهب كان "يجب أن يكون الفرق ظاهرا بين ألفاظ الشعراء الذين نشئوا وعاشوا في المدن ومعانيهم، وألفاظ الشعراء الذين عاشوا في البادية ومعانيهم، ولكنا لا نجد هذا الفرق، فشعر المكيين والمدنيين موافق كل الموافقة لشعر البدويين من أهل الحجاز ونجد في الخيال والتصور والأغراض والمعاني بوجه عام، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لا نستطيع أن نعتمد على هذا المذهب؛ لأن العرب لم يتحضروا كلهم بعد الإسلام، وإنما ظلت كثرتهم بادية في الحجاز ونجد، وظلت تقول الشعر، كما كانت تقوله في البادية، ونحلت الشعر، فكيف تستطيع أن تقطع بأن التصور البدوي والخيال البدوي والمعنى البدوي تكفي ليكون الشعر جاهليًّا؟ " ويرى أنه ليس هناك ما يمنع مهرة الرواة والشعراء المتحضرين أن يتقنوا الحياة البدوية إتقانًا تامًّا، ويحسنوا تقليد شعراء البادية في ألفاظهم ومعانيهم وأغراضهم، ثم ينتهي إلى أن "تزييف المعنى ليس أشد عسرًا من تزييف اللفظ، وليس من الفطنة أن تتخذ بدوية المعنى مقياسًا لصحة الشعر الجاهلي، كما أنه ليس من الفطنة أن نتخذ غرابة اللفظ مقياسًا لصحة هذا الشعر أيضا".
بعد هذا يقترح جديدًا، فيقول: "إننا لا ينبغي أن نعتمد على اللفظ وحده، ولا على المعنى وحده، ولا على المعنى واللفظ فقط، وإنما نعتمد على اللفظ والمعنى وعلى أشياء أخرى فنية وتاريخية. ومن مجموع هذه الأشياء كلها نستخلص لأنفسنا مقياسًا يقرب إلينا صواب الرأي في هذا الشعر الجاهلي". وبعد شرحه لهذا المقياس، يقول: إنه يصل إلى ذلك عن طريق المدارس الشعرية في العصر الجاهلي، فقد كانت مدارس شعرية، وكل مدرسة كانت لها قواعد فنية تقوم عليها وخصائص فنية مشتركة بين جميع أبنائها، فيرى "أنه لا ينبغي أن نبحث عن الشعر الجاهلي الآن من حيث شخصية الشعراء الذين يضاف إليهم، بل من حيث المدارس التي أنشأت هؤلاء الشعراء"، ومن نماذج المدارس التي ذكرها: مدرسة أوس بن حجر، وزهير، والحطيئة، وكعب بن زهير، والنابغة.