إن سلم لا يدل على انقطاع الكهانة، ثم إن هؤلاء الكهان إذا عاصروا زمن النبوة فإنهم عارفون بصدق النبي ودلالة معجزته، لأن لهم بعض الوجدان من أمر النبوة، ولا يصدهم عن الإيمان ويدعوهم إلى العناد إلا وسواس المطامع بحصول النبوة لهم، كما وقع لأمية بن أبي الصلت، فإنه كان يطمع أن يكون نبياً، وكذا وقع لابن الصياد ومسيلمة وغيرهما، وربما تنقطع تلك الأماني فيؤمنون أحسن إيمان، كما وقع لطليحة الأسدي وسواد بن قارب، وكان لهما في الفتوحات الإسلامية من الآثار ما يشهد بحسن الإيمان. وذكر في بيان استعداد بعض الأشخاص أعم من أن يكونوا كهاناً أو غيرهم- للإخبار بالأمور الغيبية قبل ظهورها كلاماً طويلاً حاصله: أن النفس الإنسانية ذات روحانية، ولها بذاتها الإدراك من غير واسطة، لكنها محجوبة عنه بالانغماس في البدن والحواس وشواغلها، لأن الحواس أبداً جاذبة لها إلى الظاهر بما فطرت عليه من الإدراك الجسماني، وربما تنغمس عن الظاهر إلى الباطن فيرتفع حجاب البدن لحظة، إما بالخاصة التي هي للإنسان على الإطلاق مثل النوم، أو بالخاصة الموجودة في بعض الأشخاص، كالكهنة أهل السجع، وأهل الطرق بالحصى والنوى، والناظرين في الأجسام الشفافة، من المرايا والمياه وقلوب الحيوانات وأكبادها وعظامها، وقد يلحق بهم المجانين، أو بالرياضة الدينية مثل أهل الكشف من الصوفية، أو السحرية مثل أهل الكشف من الجوكية، فتلفت حينئذ إلى الذوات التي فوقها من الملأ الأعلى، لما بين أفقها وأفقهم من الاتصال في الوجود، وتلك الذوات إدراك محض وعقول بالفعل، وفيها صور الموجودات وحقائقها كما قرر في محله، فيتجلى فيها شيء من تلك الصور وتقتبس منها علماً، وربما وقعت تلك الصور المدركة إلى الخيال فيصرفها في القوالب المعتادة، ثم تراجع الحس بما أدركت إما مجرداً أو في قوالبه فتخبر به. انتهى.
ولا يخفى أن فيه ذهاباً إلى ما يقوله الفلاسفة في الملأ الأعلى، وكثيراً ما يسمونه عالم المجردات، وقد يسمونه عالم العقول، وهي مذكورة في المشهور