للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الكلام الحقيقة (١)، فلا يخرج عنها إلا بدليل قوي يصرفه إلى المجاز.

ومن هنا يمكن لنا الطلب من المخالفين إقامة دليل قوي وصارف واضح للكلام عن الحقيقة، ولن يجدوا إلا الاحتمالات البعيدة والقرائن البعيدة، ومع أنه يمكن أن نكتفي بهذا الأصل ونتمسك به، لكنا لا نكتفي بذلك ونتبرع بالجواب عن هذه الشبهة بوجوه:

أ - إن حد المجاز العقلي الذي أشرنا إليه من قبل- لا ينطبق على دعاء الأموات وندائهم والاستغاثة بهم إذا اعتبرنا حال الداعين واعتقادهم فالإسناد الواقع في كلام من يدعو الأموات -إسناد حقيقي ينطبق عليه حد الحقيقة العقلية، ولا ينطبق عليه حد المجاز العقلي، وذلك لأن علماء البلاغة ذكروا أن العبرة في الإسناد ليكون مجازاً عقلياً -أن يكون الحكم المفاد منه خلاف ما يعتقده المتكلم ولا يشترط أن يكون خلاف الواقع ونفس الأمر، وقالوا: إن قول الدهري: أنبت الربيع البقل لا يسمى مجازاً، وكذلك قول الشاعر:

أشاب الصغير وأفنى الكبير … كر الغداة ومر العشي

وكذلك قالوا في نحو شفى الطبيب المريض.

قالوا هذه الأمثلة حقيقة عقلية إذا وقعت ممن يرى تأثير المسند إليه في النسبة وقد تقدم بيان ذلك في التعريف.

فعلى هذا فكثير ممن يدعون الأموات والغائبين، فالإسناد الواقع في كلامهم حقيقة عقلية وليس مجازاً عقلياً، لاعتقادهم التأثير والتصرف في الكون وغير ذلك لمن يدعونهم كما تقدم في مبحث علاقة الدعاء بالعقيدة، فقد بينّا هناك بما لا يدع مجالاً للشك أن كثيراً منهم يعتقد


(١) جمع الجوامع مع شرح المحلى: ١/ ٣١٢، والخصائص لابن جني: ٣/ ٤٤٢، والمزهر: ١/ ٣٦١ و ٣٥٦، وترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان: ١٥١، والرسالة المدنية ص: ٤٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>