للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لهفته عليها لتدلع لهبا فى قلبه كلهب النار التى حرقتها، وإنه ليندب مجدها وأمنها ومن سفكوا الدم فيها، حتى كان الأخ لا يفكر فى أخيه ولا الأب فى بنيه، فالجميع مشغولون بأنفسهم كل يريد النجاة ولا منجى فالسيوف تحصدهم حصدا، أما النساء فساقوهن سبايا حاسرات الوجوه، وباعوهن بيع الرقيق. وخرّت المدينة الكبيرة عند أقدام الزنج تترنّح إعياء، وأصبحت القصور بالتحريق تلالا، وأصبح الناس أشلاء مبعثرة فى كل مكان، وأصبح المسجد الجامع قفرا من عبّاده ونسّاكه. ويتحول ابن الرومى من وصف الكارثة المروعة إلى استصراخ الناس كى يردوا سيل الزنج الكاسح عن البصرة ومدن العراق، ويرفع لهم شعارات الجهاد الدينى، ويستحثهم بما يكون بينهم وبين الله من حوار إزاء تلك الفاجعة إن هم قعدوا عنها، ويناديهم بلسان الرسول صلى الله عليه وسلم أن يردّوا عدوان الزنج الأثيم، ويستنفرهم فى حماسة بالغة لرد هذا العار وللثأر والانتقام، ويختم ابن الرومى المرثية ببيان فضل المجاهدين وما أعدّ لهم من الجنان والرضوان العظيم. وهى بذلك تعدّ مرثية من جهة واستصراخا واستنفارا لحرب الزنج من جهة ثانية، وهو استنفار يكتظ بالغيظ والحنق الشديد.

ومن موضوعات الرثاء التى استحدثت فى العصر العباسى الماضى رثاء المدلل من الحيوانات المستأنسة، ونرى شعراء هذا العصر يحاكون أسلافهم فى هذا الباب، ومن أروع ما نظموه فيه مرثية الحسن بن على بن أحمد بن بشار المعروف بابن العلاّف الضرير النهروانى، وكان من أصدقاء ابن المعتز وابن الفرات وزير المقتدر، وكان له هر يأنس به تعوّد أن يدخل أبراج الحمام لدى الجيران ويأكل أفراخها، وكثر ذلك منه، فأمسكه بعض أربابها وذبحوه، وحزن عليه ابن العلاف، فرثاه رثاء حارّا وكأنه يرثى صديقا عزيزا لديه نكبه بعض الخلفاء، ولذلك قيل إنه كنى بالهر عن ابن المعتز وقيل عن ابن الفرات، خوفا على نفسه من المقتدر الذى نكبهما إن هو صرّح بالاسم الحقيقى، ويضيف ابن خلكان إلى هذين القولين قولا ثالثا، هو أنه كانت لعلى بن عيسى وزير المقتدر جارية هويت غلاما لابن العلاف، ففطن بهما فقتلا، وبكى ابن العلاف غلامه وكنى عنه بالهر. وفى رأينا أن روعة هذه المرثية هى التى جعلت القدماء يظنون بها هذه الظنون، وهى خمسة وستون بيتا،

<<  <  ج: ص:  >  >>