للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والقصيدة جميعها على هذا النمط من التحسر الممض واللوعة المحرقة، حتى لكأنما أصبحت الدنيا كلها فى عين ابن الرومى قبرا موحشا كبيرا، قبرا يصبّ عليه حزنا ثقيلا. وممن رزئ بابنين له وبكاهما طويلا إبراهيم بن العباس الصولى، وكان الموت قد فجأه فى أولهما، ثم لم يلبث أن فجأه فى الثانى، فقال (١):

كلّ لسانى عن وصف ما أحد ... وذقت ثكلا ما ذاقه أحد

ما عالج الحزن والحرارة فى الأ ... حشاء من لم يمت له ولد

فجعت بابنىّ ليس بينهما ... إلا ليال ما بينها عدد

وكلّ حزن يبلى على قدم ال‍ ... دّهر وحزنى يجدّه الكمد

وشاعرية الصولى كانت دون شاعرية ابن الرومى، ولذلك لم يبلغ فى تصوير حزنه وأساه على فلذتى كبده ما بلغه ابن الرومى من تصوير كارتته فى ابنه وفاجعته فيه.

وذكرنا فى كتاب العصر العباسى الأول أن شعراء هذا العصر بكوا بغداد حين أصابتها كوارث النهب والتحريق فى حروب المأمون والأمين، وبذلك عرف الشعر العربى لأول مرة رثاء المدن، ونجد فى هذا العصر الجديد بقية لهذا الرثاء حين هجم صاحب الزنج بجموعه على البصرة وأنزل بها النهب والسلب والحرق وفتك بأهلها فتكا ذريعا، حتى قيل إنه قتل منهم فى هذا الهجوم ثلاثمائة ألف على نحو ما مر بنا فى هذا الموضع، وقد أشرنا هناك إلى مراثى الشعراء لتلك المدينة وفى مقدمتها مرثية ابن الرومى:

ذاد عن مقلتى لذيذ المنام ... شغلها عنه بالدموع السّجام

وهو يستهلها ببيان ضخامة الحادثة وخطورتها، فقد نزل بالبصرة من ضروب الذل والهوان والخسف والعسف ما ملأ نفسه ألما وهو لا وحسرة ولوعة، حتى إنه ليبكى بكاء مرّا طوال نهاره وطوال ليله، فقد انتهك الزنج محارم الإسلام، وإن


(١) الديوان فى «مجموعة الطرائف الأدبية» ص ١٧٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>