يا دهر ويحك ما أبقيت لى أحدا ... وأنت والد سوء تأكل الولدا
وقد مضى فيها يندب سكناه فى دار موحشة، وقد خلّف من ورائه الجيوش والكنوز التى لم تكن تحصى عددا، والسرير أو العرش الذى كان يملؤه مهابة وسؤددا، ويذكر سحقه للأعادى سحقا لا يبقى ولا يذر، والجياد والرماح تغدو عليهم وتروح، كما يذكر قصوره ووصائفه وملاهيه وأمجاده الحربية، يقول:
ثم انقضيت فلا عين ولا أثر ... حتى كأنك يوما لم تكن أحدا
وعلى نحو ما تفجعوا على الخلفاء تفجعوا على أبنائهم وعزّوهم فيهم، وبالمثل صنعوا مع الوزراء وذوى النباهة والشأن، ومرّ بنا فى حديثنا عن خزانات الكتب ما أقام على بن يحيى المنجم فى ضيعة له من خزانة ضخمة للكتب كان الناس يؤمونها من كل بلد، فيجدون فيها نفقتهم وما يشاءون من كتب لا تكاد تحصى، وكأن الخلفاء منذ المتوكل يسبغون عليه عطايا جزيلة، فكان ينفقها على مكتبته وعلى الناس من شعراء وغير شعراء، فلما توفى رثاه على بن بسام رثاء رائعا على هذا النمط (١):
قد زرت قبرك يا علىّ مسلّما ... ولك الزيارة من أقلّ الواجب
ولو استطعت حملت عنك ترابه ... فلطالما عنى حملت نوائبى
لسكبته أسفا عليك وحسرة ... وجعلت ذاك مكان دمع ساكب
فلئن ذهبت بملء قبرك سؤددا ... لجميل ما أبقيت ليس بذاهب
والقطعة تفيض حسرة ولوعة، حتى ليتمنى ابن بسام أن لو فداه بروحه ومات مكانه وحمل عنه ترابه، ويقول إنه لو عرف أن دمه يروى ثراه لسكبه عليه ولم يسكب دموعه المنهلة. ثم يسترجع نفسه فجميل ما أسدى إلى الناس من صنع لن يذهب سدى، بل سيظل خالدا على مر الزمان. وكانوا يعزون الآباء فى البنات وأن يحتسبوهن عند الله، ولهم فيهن تعزيات طريفة، من ذلك تعزية ابن الرومى