للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ميت السّرائر ضحّاك على حنق ... ما دام يعجز عن أعدائى الحنق

فهو يشرب الماء صفوا وغيره يشربه كدرا وشوبا وطينا، وهو قوى العزيمة، يكتم سره ونيته، أو هو بعبارة أخرى رجل كامل المروءة، وقد تغنى الشعراء معه طويلا بالكرامة والعزة والأنفة والشيم العربية الرفيعة التى ظلت لا تبرح ذاكرة العرب على مر العصور.

واحتدم الرثاء فى العصر، فلم يمت خليفة ولا وزير ولا قائد ولا نابه مشهور إلا رثاه الشعراء، وكان يحدث أن يقتل الخليفة أو يخلع ويموت فى سجنه، وكان من الشعراء من يتأثر لذلك تأثرا عميقا، فتتفجر لوعاته على لسانه رثاء حارّا، ومما يصور ذلك مقتل المتوكل الذى مرّ بنا الحديث عنه، وكان البحترى حاضرا مقتله فتعمق التأثر نفسه، فبكاه بقصيدته (١):

محلّ على القاطول أخلق داثره ... وعادت صروف الدهر جيشا تغاوره

ويقال إنه نظمها حين ولى ابنه المعتز الخلافة وهى ليست رثاء ولا تأبينا فحسب، بل هى أيضا ثورة على الجناة وفى مقدمتهم ولى العهد المنتصر، إذ تحول صدره إلى ما يشبه بركانا لا يزال يقذف بالحمم الملتهبة، حتى ليحرم على نفسه كل متاع إلا أن يهب من يأخذ بثأر المتوكل ويسفح دماء قاتليه دما بدم، ويعجب أن ابنه وولى عهده يشترك فى دمه، ويدعو الله ألا يمتعه بتراثه، يقول:

حرام علىّ الرّاح بعدك أو أرى ... دما بدم يجرى على الأرض مائره (٢)

أكان ولىّ العهد أضمر غدرة ... فمن عجب أن ولّى العهد غادره

فلا ملّى الباقى تراث الذى مضى ... ولا حملت ذاك الدعاء منابره (٣)

وكان ابن المعتز صديقا حميما للخليفة المعتضد، وكان لا يبارى فى شجاعته وبأسه. وكانت أيامه أيام أمن وسعود للخلافة، فلما وافاه القدر جزع عليه ابن المعتز جزعا شديدا، وبكاه وبكى دولته بطائفة من المراثى الحارة، منها مرثيته (٤):


(١) الديوان ٢/ ١٠٤٥.
(٢) مائره: سائله.
(٣) ملى: متّسع؟ ؟ ؟ .
(٤) النجوم الزاهرة ٣/ ١٢٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>