ويأتي الاستعطاف في طليعة الأساليب النظرية لأنه مطلب أساسي مهم في معاملة الناس لكي يتقبلوا ما يقال لهم وهو قرين اللين، فقد يتغافل الداعية عنه حينما يغوص في أعماق الدعوة ويأخذه شيء من الحماسة والانفعال والغضب لله ولرسوله (، فلا يقبح ولا يجهل ولا ينتقص ولا يتعالى، وليكن الخليل (قدوته حينما تأدب مع أبيه- على حين صدر من أبيه ما صدر- بقوله: (يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك ((مريم٤٢، ٤٣) . فلم يصفه بالجهل وإن كان هو كذلك، ولم يصف نفسه بالعلم الفائق وإن كان هو كذلك.
وإن من معاني الاستعطاف تذكير العبد بفضل المنعم المتفضل حتى يصرف شكره له لا لغيره، كما نهى الخليل (أباه عما هو عليه من الضلال والغواية، وذكره بفضل الله عليه فقال: (يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا، يا أبت إني أخاف أن يمَسَّك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان ولياً (. (مريم ٤٤، ٤٥) .
ولذا عُدّ الاستعطاف من صفات الداعية الناجح الذي كثيرا ما يجذب القلوب الشاردة ويؤلف القلوب النافرة ويأتي بالخير بدلا من الزجر والتأنيب والتوبيخ، فإن قانون الدعوة ليس منحصرا في شخصية معينة وإنما هو علم ومعرفة وهداية وفيض رباني، فيقول:(فاتبعني أهدك صراطا سويا (. (مريم ٤٣) فلا غضاضة في أن يتبع الوالد ولده إذا كان على نور وهداية من الله وعلى اتصال بالله.
وهذا ما يجب التنبيه به على الداعية أسوة بالخليل (الذي لم يغب عن باله مبدأ الاستعطاف فلم يفقد برّه بأبيه فيغلظ له في القول ولم يغضب فيتجاوز حدود التوقير، مع ما لقي من الاستنكار والوعيد بأشد العقوبات: (قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليّاً ((مريم ٤٦) .