للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا مما وقع الاتفاق عليه من هؤلاء؛ فإنّهم يُسلّمون أنّ الإحكام والإتقان يدلّ على علم الفاعل.

وهذا أمرٌ ضروريٌ عندهم، وعند غيرهم، وهو من أعظم الأدلة العقلية التي يجب ثبوت مدلولها.

معنى الإحكام والإتقان

والإحكام والإتقان إنّما هو أن يضع كلّ شيء في محلّه المناسب، لتحصل به الحكمة المقصودة منه؛ مثل الذي يُخيط قميصاً، فيجعل الطوق على قدر العنق، والكُمَّين على قدر اليدين؛ وكذلك الذي يبني الدار، يجعل الحيطان متماثلة ليعتدل السقف؛ والذي يصنع الابريق يُوسِّع ما يدخل منه الماء، ويُضيِّق ما يخرج منه.

وحكمة الرب في جميع المخلوقات باهرة، قد بهرت العقلاء، واعترف بها جميع الطوائف.

الفلاسفة يثبتون العناية والحكمة الغائية

والفلاسفة من أعظم الناس إثباتاً لها، وهم يُثبتون العناية، والحكمة الغائيّة، وإن كان فيهم من قَصَّر في أمر الإرادة والعلم١.


١ قال شيخ الإسلام رحمه الله عن الفلاسفة: "إنهم معترفون بما هو مشهود معلوم من ظهور الحكمة التي في العالم التي يسمونها (العناية) . والفلاسفة من أعلم الناس بهذا، وأكثر الناس كلاماً فيما يوجد في المخلوقات من المنافع والمقاصد والحكم الموافقة للإنسان وغيره، وما يوجد من هذه الحكمة في بدن الإنسان وغيره، سواء كانوا ناظرين في العلم الطبيعي وفروعه، أو علم الهيئة ونحوه من الرياضي، أو العلم الإلهي، وأجل القوم الإلهيون. وقد تقدم ما ذكر في اعترافهم بأن هذه الموافقة ضرورة من قبل فاعل قاصد لذلك مريد. ولا ريب أن الاعتراف بهذا ضروري؛ كالاعتراف بأن المحدَث لا بُدّ له من محدِث، والممكن لا بُدّ له من مرجّح. فكما أن هناك مقدمتين؛ إحداهما: أن هنا حوادث مشهودة، والحادث لا بد له من محدث. والأولى حسية، والثانية عقلية بديهية ضرورية. وكذلك أن هاهنا ممكنات، والممكن لا بُدّ له من مرجّح واجب، فكذلك هاهنا مقدّمتان؛ إحداهما: أن هنا حكماً أو منافع مطلوبة. والثانية: أنه لا بد لذلك من فاعل قاصد مريد. وهما مقدّمتان ضروريتان؛ الأولى حسية، والثانية عقلية؛ فإنّ الإحساس بالانتفاع كالإحساس بالحدوث، وإن كان في تفاصيل ذلك ما يعلم بالقياس أو الخبر. ثم هذه الحكم قد يعلم حدوثها، وقد يعلم إمكانها، كالأسباب". بيان تلبيس الجهمية ١٢٠٣-٢٠٤.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله أيضاً عن الفلاسفة أنهم: "من أكثر الناس نظراً في حكم الموجودات، وقد اعترفوا بما تقدّم من أن هذه الموافقة تعلم ضرورة أنها من قبل فاعل قاصد لذلك مريد، إذ ليس المراد أن تكون هذه الموافقة بالاتفاق، فعلم أن نفيهم بعد ذلك كونه فاعلاً مختاراً، تناقضٌ منهم". بيان تلبيس الجهمية ١١٨٢ وانظر: درء تعارض العقل والنقل ٩١١١.

<<  <  ج: ص:  >  >>