ما شقّ جيب شقيقها حسدا ولا ... بات النّسيم بذيله يتعثّر
ثمّ لم يقدر على إطالة المكث معه، فتركه وودّعه، فضاق عليه فسيح ذلك الفضاء، وقام يشيح للمضاء، فمرّ بدولاب قد فاضت عيونه، وعبّرت عن شأنه شؤونه، قد حنّ حنين المفارق للأخدان، وإن تعهّد شبابه وهو أغصان لدان، فقال:[الطويل]
ودولاب روض كان من قبل أغصنا ... تميس فلمّا غيّرتها يد الدّهر
تذكّر عهدا بالرّياض فكلّه ... عيون على أيام الصّبى تجري
وحكي أنّ الملك المنصور استدعاه يوما إلى مجلسه المطلّ على العاصي، المشرف على الدّاني منه والقاصي، والسّعد قد خدمه، وطنب على النجوم خيمه. وقد أتاه بعض الخدم المعدّين للخدم، فعرض عليه من أعمال الجواري صنائع حسان، وبدائع إحسان، كأنّما أسهمها الرّوض في حبره، أو سهّمها النرض بإبره، فجعل يقرّبها ويأخذها ويقلّبها، حتى أتى على مناديل ليست بمذالات، جعلت لبدور الوجوه هالات، فأمره أن يكتب ما يطرّز فيها، فلم يقل أيّها (١٤٨) بل قال بديها: [الطويل]
إذا حملتني راحة الملك الذي ... أنامله جودا تفيض على البحر
فمن ذا الذي قد حاز ما حزت من علا ... ومن ذا الذي قد نال ما نلت من فخر
إذا كنت أرقى كلّ وقت وساعة ... على لجّة البحر المحيط إلى البدر
وحكي أنه واعد غلاما كان به مغرما، وكان لا يرى غير وصله مغنما، وقد ضرب له العشاء موعدا، وأصبح له الدّهر بوصله مسعدا. فجلس لانتظاره حتى طوي بساط السّمر، وكفّ الغروب اشتطاط القمر. فلمّا اسودّت أحشاء الظّلماء، وطفي سراج السّماء، طلع عليه إذ غاب القمر طلوع البدر، وأراه من تلك الليلة