القدوم، وامتازت الخيل في سرى الليل بمشابهة الفلك ومشاركة النجوم، إلا أن الخيل يعينها قوة راكبها وثباته، ويغريها بالسبق حدة عزم راكضها وثباته، ويطوي لها شقة الأرض حسن صبره على مواصلة السرى، ويقرب لها النازح طول هجره لطيف الكرى، حتى إن بعض راكبي بريدها يكاد يعثر طوق ليله بذيل صاحبه، ويلتبس على ناظره ومنتظره غدوه في المهمات برواحه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي كان الرعب يتقدمه مسيرة شهر إلى العدى، والوحي يأتيه من السماء بخبر من راح لحربه أو اغتدى.
فإنه لما كان البريد جناح الممالك، ورائد المهمات الإسلامية فيما قرب أو نأى من المسالك، وبه تنفذ المهمات في أوقاتها، وتتوافق الحركات فيما يتعين من ميقاتها، وتعرف أحوال الثغور على اتساع أطرافها واختلاف جهاتها، كان المبرز في ذلك من عرف منه السبق وألف، وسلم له التقدم في السرعة من نظرائه فما ارتيب في ترجحه ولا اختلف، فكأنه شهاب يتوقد في سمائه، أو برق تألق في أذيال الغمام بسرعة وميضه وانطوائه.
ولما كان فلان ممن جلى في هذه الحلبة، وبرز في ارتقاء هذه الرتبة، فبلغ إليها غاية لا يشق غبارها المثار، ونشر منها راية لا يتعلق منها الريح الخوافق بسوى مشاهدة الآثار، فسار على البريد في قوة الهواجر المثبطة وشدتها، وقصر الليالي المعينة على السوق وتقارب مدتها، من دمشق المحروسة إلى الديار المصرية في يومين ونصف، فكان له بذلك مزية على أقرانه، ودرجة لا يرتقي إليها إلا من جاراه إلى مثلها في ميدانه؛ وسأل من علم ذلك أن يكتب له خطه بما علمه، وأن يشهد له بما تحققه من هذه الحركة التي رفعت بين الأكفاء علمه.