ومنه رسالته في البندق أولها: أما بعد حمد الله على ما أسبغ من نعمائه، ووالى من آلائه، وأباح الإنسان من شرائه، وفسح له فيما يتدرب به ليوم هيجائه، ويعده من قوة لدفع الصائل عليه من أعدائه، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم أنبيائه وعلى آله وصحبه وخلفائه وحلفائه، ما مدّ الكف الخضيب وتر البرق لقوس الغمام، وحلق طائر الفجر نحو الغرب من وكر الظلام، فإن الصيد مما اتفقت الشرائع المختلفة على تحليله، ولهجت النفوس الأبية، بتقديمه على سائر الملاذ الرياضية، وتفضيله مع أنه الراحة التي لا تنال إلا بتجشم التعب، والمسرة التي لا تدرك إلا بعد النصب واللغب، وألذه من القلوب موقعا، وأمكنه من النفوس موضعا، ما أدركه المرء بنفسه واكتسابه، لا بمشاركة بزاته وفهوده وكلابه؛ ولذلك أجهد نفوسهم فيه كثير من الملوك والخلفاء، ولم يرضوا بالصيد من وجه الأرض، فعمدوا إلى الصيد من كبد السماء، ولم يجدوا ذلك إلا في صرع الطائر الجليل، الذي لا يشترك فيه صغير مع كبير، ولا حقير مع جليل، ولو لم يكن فيه مع حصول المراد، إلا السلامة من التقطر عن الجياد، لكان أولاها بالاختيار، وأحقها عند الاختبار، وأنفوا من بقايا كسائر، كأشلاء الذئاب، وفضلات ما أكلته الفهود، وولعت به الصقور، وولغت فيه الكلاب، فعمد كل منهم إلى الانفراد في رمائه، وصرع كل طائر يتخبط في ذمائه، مخلّق بدمائه، مراصد بارتقائه لعيون الأوتار في التفافه وتحليقه، حذر في حالتي اجتماعه وتفريقه، وتغريبه وتشريقه، وإذا فكر اللبيب فيما أودعه الباري جلّ جلاله من القوى فيها، ظهر له أسرار ما أخفاه من بدائع صنعه بين قوادمها وخوافيها.