للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأما مجالس ذوي الكمالات من أهل المدن، فإنها وإن اتفق وتجردت عن الحديث في منكر، فهي لا تخلو من وحشة، فإنه على الأقل لا بد أن يتشرف المجلس، ولو زمنا قليلا بحلول الغيبة، أو النميمة المرافقين لنا بمرافقة الشخص لظله إلا إذا سمحت الصدقة، وكان زمن المجلس قليلا جدًّا لا يسع سوى التحية دون ردها، وأنهم لن يستطيعوا أن يبرهنوا على خلاف ذلك، فإني قائل إذا لم يجلسوا مستمدين الصمت، ومنصرفين كذلك فبماذا ينطقون؟ هل ينطقون بعلم شرعي، وقد جهلوه أو تجاهلوه؟ أو بعلم صناعي وقد عادوه، أم فن طبي وقد تناسوه، أم حديث عن منفعة عمومية وقد أغفلوها، أم استفسار عن حوادث سياسية، وقد زعموا الاشتغال بها عبثا؟

المرحلة الثالثة:

أما في هذه المرحلة، فقد تهيأ للأستاذ الأمام من الأحداث السياسية والاجتماعية ما أدى إلى نفيه، واغترابه، وتنقله بين بلاد الشرق والغرب، فاطلع على ألوان جديدة من حضارتها، واتصل بالحياة فيها وخالط المفكرين، فأكسبه كل ذلك مرانة فكرية، وبيانية هذبت أسلوبه، وصقلت تعبيره، وزادته تحررا من السجع والصنعة، وتوفرت له مادة الكتابة والتحرير، وجعل متجهه في الكتابة المعنى والفكرة يطنب في بسطها، وتوضيحها لا يلم إلا قليلا بالصناعة اللفظية، وقويت له الحجة والبرهان المنطقي، والأسلوب الجدلي لطول دفاعه عن الدين، وذوده عن الوطن والشعوب الشرقية جميعا، واستنهاضه العزائم حتى يسترد الشرق مجده المغصوب، وفي هذه الناحية تجلت مقدرته البيانية من قوة أسلوب، وجزالة تعبير وأحكام نسج، ودعم للحجة كما اتسعت أغراض الحديث لديه من تحرير في الاجتماع والدين، ورسائل إخوانية، وكتب يعبر فيها عن خوالج حسه المختلفة بأسلوب طلي فسيح جعل المرحوم الأستاذ مصطفى صادق الرافعي، يصف صاحبه في كتاب الحساب الأحمر، فيقول: "خلق فصيحا مبين اللهجة؛ لأن لسانه أعد لتفسير معجزة الدنيا في هذه اللغة، فكان لسانه ولا غرو معجزة في الألسنة، وكان له بيان ينبث من طبعه

<<  <  ج: ص:  >  >>