للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الجِسْر، فكُنَّا نُبَكِّرُ فنَجْلسُ في المَسْجِد الّذي ببابِ الجِسْر في كُلِّ غَدَاةٍ، فمرَّت بنا يَوْمًا امرأةٌ رَاكبةٌ معها خَدَمٌ سُودَانٌ، فقُلنا: مَنْ هذه؟ قالوا: خَالِصَةُ، فقال أحَدُنا: قد عَشِقْتُ خَالِصَة، وعَمِلَ فيها شِعْرًا، فأَعَنَّاهُ عليه. ثمّ لَم نَلْبَثْ أنْ مرَّت أُخرى راكبةً معها خَدَمٌ بِيْضَان، فقُلْنا: منْ هذه؟ فقالوا: عُتْبَةُ، فقُلتُ: قد عَشِقْتُ عُتْبَةَ، فلم نَزل كذلك في كُلِّ يَوْم إلى أنْ التَأَمَتْ لنا أشْعَارٌ كَثِيْرةٌ، فدَفع صَاحبي شعْرَهُ إلى خَالِصَة، ودَفَعْتُ أنا شِعْري إلى عُتْبَةَ، وألْحَحْنا إلْحاحًا شَدِيْدًا، فمرَّةً تُقْبل أشعَارُنا، ومرَّةً نُطْرَد، إلى أنْ جَدُّوا في طَرْدنا، فجلَسَتْ عُتْبَةُ يَوْمًا في أصْحَاب الجَوْهَر، ومَضَيْتُ فلَبِسْتُ ثِيَابَ رَاهِبٍ، ودفَعْتُ ثِيَابي إلى إنْسَان كان معي، وسَألتُ عن رَجُلٍ كبيرٍ من أهْل السُّوق، فدُلِلْتُ على شَيْخ صَانِع (a)، فجئتُ إليه، فقُلتُ: إنِّي قد رغبْتُ في الإسْلَام على يَدَي هذه المَرْأةِ، فقام معي وجَمَع جَمَاعَةً من أهْل السُّوق، وجاءها فقال: إنَّ الله قد سَاقَ إليكِ أجْرًا، هذا رَاهِب قد رَغبَ في الإسْلَام على يَدَيْك، قالت: هَاتُوه، فدَنوْتُ منها، فقُلتُ: أشْهَدُ أنَّ لا إلَه إلَّا الله، وأنَّ مُحَمَّدًا عبدُه ورسُولهُ، وقَطَعْتُ الزُّنَّارَ، ودَنَوْتُ فقبَّلْتُ يدَهَا (b)، فلمَّا فعَلْت ذلك رَفَعْتُ البُرْنُسَ فعَرَفَتْني، فقالت: نَحُّوهُ لعَنَهُ الله! فقالوا: لا تَلْعَنيه فقد أسْلَم، فقالت: إنَّما فعَلْتُ (c) ذلك لقَذَرِه، فعَرَضُوا عليَّ كُسْوَةً، فقلت: ليسَتْ بى حَاجَة إلى هذه، وإنَّما أرَدْتُ أنْ أَشْرُفَ بولَائها، فالحَمْدُ لله الّذي مَنَّ عليَّ بحُضُوركم، وجَلَسْتُ فجعَلُوا يُعلِّمونَني الحَمْدَ، وصَلَّيْتُ معهم العَصْر، وأنا في ذاك بينَ يَدَيْهِا (٤) أنْظُر إليها لا تَقْدرُ لي على حِيْلَةٍ، فلمَّا انصرَفَتْ لقِيَتْ خَالِصَةَ فشَكَتْ إليها، فقالت: ليسَ يَخْلُو هذان من أنْ يكُونًا عَاشِقَيْن أو مُسْتَأكِلَيْن، فصَحَّ عَزْمُهما على امْتِحاننِا بمالٍ على أنْ نَدَع التَّعرُّضَ لهما، فإنْ قَبِلْنا المالَ فنحنُ مُسْتَأكِلَان، وإنْ لَم نَقْبَلْهُ فنحنُ عَاشِقَانِ.


(a) تاريخ بغداد: صائغ.
(b) ب: يديها.
(c) ب: فعل.
(d) قوله: "بين يديها" ساقط من ب.

<<  <  ج: ص:  >  >>