وبها قبرُ يَحْيَى بن زَكَرِيَّاء عَليهِ السَّلامُ، وكَنِيْسَة يُقالُ لها القُسْيَان، وبها نَهْرُ الأُرُنْط، عليه العِماراتُ والضِّياع والبّساتِيْن، وبها عيونٌ كَثِيْرةٌ تأتي من قنواتٍ من الجِبَال، فتَدْخل منازلهم، فيَضْربُ الماءُ لكُلِّ جهةٍ، وأهلُها قومٌ من العَجَم، وبها قومٌ من العَرَب.
وقَرَأتُ في كتاب المَسَالِك والمَمَالِك للحَسَن بن أحْمَد المُهَلَّبِيّ العزيزي؛ وَضَعَهُ للعَزِيز الفاطِمِيّ المُسْتَولِي على مِصْر، قال: فأمَّا مَدِينَة أَنْطاكِيَةُ فهي مَدِينَةُ العَوَاصِم، وهي مَدِينَةُ جليلةٌ؛ فتَحَها أبو عُبَيْدَة بن الجَرَّاح، وأسْكَنها المُسْلِمِيْن. وهي من الإقْليم الرَّابِع، وعرضُها خمسٌ وثلاثُون دَرَجةً.
وهي مَدِينَةٌ عَظِيمةٌ ليسَ في الإسْلام، ولا في بلدِ الرُّوم مثلها؛ لأنَّها في لِحْفِ جَبَلٍ، هو من شَرْقها مُطلّ عليها، لا تقَعُ عليها الشَّمْس إلَّا بعد سَاعتَيْن من النَّهَار، وعليها سُور من حِجَارَة يَدُور بسَهْلها، ثمّ يطلعُ إلى نصْف الجَبَل، ثمّ إلى أعْلاهُ، ثمّ يَنْزل حتَّى يَسْتديرَ عليها من السَّهلِ أيضًا، وفي داخل السُّور عرَاصٌ كَثْيرة في الجبل ومَزَارِع وأجِنَّةٌ وبَساتِيْن، ويتخرَّقُ الماءُ من عُيُون له في الجبل مُقَنَّاة إلى المَدِينَة والأسْواق والمنازل، كما يتخرَّق مَدِينَة دِمَشْقَ، وأبنيتها كُلُّها بالحَجَر. والفَوَاكِه والزَّهر بها كالمَجَّان، ومَسَاحة دَوْر السُّور إثنا عَشر مِيْلًا.
وبها كَنِيْسَة القُسْيَان، وهي كَنِيْسةٌ جليلةٌ عَظِيمَة البناء والقَدْر عند النَّصَارَى، ويُقال إنَّ بها كَفّ يَحْيَى بن زَكَرِيَّاء عَليه السَّلامُ، وبرَسْمها بِطْريْقٌ، وتُجِلُّ النَّصَارَي قَدْرَهُ.
لها أعْمَالٌ واسِعَةٌ من المَشْرِق إلى المَغْرب، وأهْلُها الغَالِبونَ عليها قَوْمٌ من الفُرْس، وقومٌ من ولد صالحِ بن عليّ ومَوَالِيهِ.
وأهلُها أحْسَنُ خَلْقِ الله تعالَى وجُوهًا، وأكْرَمهم أخْلَاقًا، وأرَقّهُم طِباعًا، وأسْمَحهم نُفُوسًا، والأغْلَب على خِلَقهم البياض والخُمْرة. ومَذَاهبهم على ما كان عليه أهل الشَّام إلَّا مَنْ تخصَّص.