للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كَلَّتْ وأعْيَتْ. ومعنى هَجَمَتِ العينُ: غارَتْ.

وقالَ لأعرابيٍّ جاءَهُ فأسْلَمَ، ثمَّ أتاهُ مِن عامٍ قابلٍ وقد تَغَيَّرَ فلمْ يَعْرِفْهُ، فلمَّا عَرَفَهُ؛ سَألَهُ عن حالِهِ، قالَ: ما أكَلْتُ بعدَكَ طعامًا بنهارٍ. فقالَ - صلى الله عليه وسلم -: "ومَن أمَرَكَ أنْ تُعَذِّبَ نفسَكَ؟ " (١).

فمَن عَذَّبَ نفسَهُ بأنْ حَمَّلَها ما لا تُطيقُهُ مِن الصِّيامِ ونحوِهِ؛ فربَّما أثَرَ ذلكَ في ضعفِ بدنِهِ وعقلِهِ، فيَفوتُهُ مِن الطَّاعاتِ الفاضلةِ أكثرُ ممَّا يَحْصُلُ لهُ بتعذيبِهِ نفسَهُ بالصِّيامِ.

وكانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَوَسَّطُ في إعطاءِ نفسِهِ حقَّها ويَعْدِلُ فيها غايةَ العدلِ: فيَصوم ويُفْطِرُ، ويقومُ ويَنامُ، ويَنكِحُ النِّساءَ، ويَأْكُلُ ممَّا يَجِدُ مِن الطَّيِّباتِ كالحلواءِ والعسلِ ولحمِ الدَّجاجِ. وتارةً يَجوعُ حتَّى يَرْبِطَ على بطنِهِ الحجرَ.

وقالَ: "عَرَضَ عليَّ ربِّي أنْ يَجْعَلَ لي بطحاءَ مكَّةَ ذهبًا، فقُلْتُ: لا يا ربِّ! ولكنْ أجوعُ يومًا وأشْبَعُ يومًا، فإذا جُعْتُ؛ تَضَرَّعْتُ إليكَ وذَكَرْتُكَ، وإذا شَبِعْتُ؛ حَمِدْتُكَ وشَكَرْتُكَ" (٢).

فاخْتارَ - صلى الله عليه وسلم - لنفسِهِ أفضلَ الأحوال؛ لِيَجْمَعَ بينَ مقاميِ الشُّكرِ والصَّبرِ والرِّضى.

- ومنها: ما أشارَ إليهِ بقولهِ - صلى الله عليه وسلم - لعَبْدِ اللهِ بن عَمْرٍو: "لَعَلَّهُ أنْ يَطولَ بكَ حياةٌ" (٣)؛ يَعْني: أن مَن تكلَّفَ الاجتهاد (٤) في العبادةِ فقد تَحْمِلُهُ قوَّةُ الشَّبابِ ما دامَتْ باقيةً، فإذا


(١) (حسن). سيأتي تفصيل القول في تخريجه (ص ٥٥٩).
(٢) (ضعيف جدًّا). رواه: ابن المبارك في "الزهد" (١٩٦)، وابن سعد (١/ ٣٨١)، وأحمد في "المسند" (٥/ ٢٥٤)، والترمذي (٣٧ - الزهد، ٣٥ - الكفاف والصبر عليه، ٤/ ٥٧٥/ ٢٣٤٧)، والروياني (١٢٢٢)، والطبراني (٨/ ٢٠٧/ ٧٨٣٥)، وأبو الشيخ في "أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - " (٨٣٦ و ٨٣٧)، وأبو نعيم في "الحلية" (٨/ ١٣٣) و"الدلائل" (٥٤٠)، والسلمي في "الأربعين"، والبيهقي في "الشعب" (١٤٦٧ و ١٠٤١٠)؛ من طريق عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أُمامة … رفعه.
قال الترمذي: "حسن"، وتعقّبه ابن كثير بقوله: "عليّ بن يزيد يضعّف". وقال أبو نعيم: "لا أعلم روي بهذا اللفظ إلَّا عن عليّ بن يزيد عن القاسم". قلت: ابن زحر لا يعدو أن يكون صالحًا في المتابعات، وعليّ بن يزيد منكر الحديث شبه المتروك، والقاسم في حديثه مناكير. فالسند واهٍ، وقد ضعّفه ابن كثير والألباني.
(٣) قطعة من حديث ابن عمرو المتّفق عليه المتقدّم تخريجه (ص ٢٩٥).
(٤) في خ: "من تكلّف الجهاد"! والأولى ما أثبتّه من م ون وط.

<<  <   >  >>