للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

في النَّهيِ عن صيامِ الجمعةِ ويومِ عرفةَ بعرفةَ: إنّهُ يُضْعِفُ عن الذِّكرِ والدُّعاءِ في هذينِ اليومينِ. وكانَ ابنُ مَسْعودٍ يُقِلُّ الصِّيامَ وتقولُ: إنَّهُ يَمْنَعُني مِن قراءةِ القرآنِ (١)، وقراءةُ القرآنِ أحبُّ إليَّ. فقراءةُ القرآنِ أفضلُ مِن الصِّيامِ. نَصَّ عليهِ سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ وغيرُهُ مِن الأئمَّةِ. وكذلكَ تعلَّمُ العلمِ النَّافعِ وتعليمُهُ أفضلُ مِن الصِّيامِ.

وقد نَصَّ الأئمَّةُ الأربعةُ على أن طلبَ العلمِ أفضلُ مِن صلاةِ النَّافلةِ، والصلاةُ أفضلُ مِن الصِّيامِ المتطوَّعِ بهِ، فيَكونُ العلمُ أفضلَ مِن الصِّيامِ بطريقِ الأَوْلى؛ فإنَّ العلمَ مصباحٌ يُسْتَضاءُ بهِ في ظلمةِ الجهلِ والهوى، فمَن سارَ في طريقٍ على غيرِ مصباحٍ؛ لمْ يَأْمَنْ أنْ يَقَعَ في بئرٍ بوارٍ فيَعْطَبَ. قالَ ابن سِيرِينَ: إنَّ قومًا تَرَكوا العلمَ واتَّخَذوا محاريبَ فصاموا وصَلَّوْا بغيرِ علمٍ، واللهِ؛ ما عَمِلَ أحدٌ بغيرِ علمٍ إلَّا كانَ ما يُفْسِدُ أكثرَ ممَّا يُصْلحُ.

والثَّاني: [مثلُ] أنْ يُضْعِفَ الصِّيامُ عن الكسبِ للعيالِ أوِ القيامِ بحقوقِ الزَّوجاتِ، فيَكونُ تركُهُ أفضلَ. وإليهِ الإشارةُ بقولهِ - صلى الله عليه وسلم -: "وإنَّ لأهلِكَ عليكَ حقًّا" (٢). - ومنها: ما أشارَ إليهِ - صلى الله عليه وسلم - بقولِهِ: "إنَّ لنفسِكَ عليكَ حقًّا … فأعْطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ" (٣)؛ يُشيرُ إلى أن النَّفسَ وديعةٌ للهِ عندَ ابن آدَمَ، وهوَ مأْمورٌ أنْ يَقومَ بحقِّها، ومِن حقِّها اللطفُ بها حتَّى توصِلَ صاحبَها إلى المنزلِ.

قالَ الحَسَنُ: نفوسُكُم مطاياكُم إلى ربكم، فأصْلِحوا مطاياكُم توصِلْكُم إلى ربِّكُم.

فمَن وَفَّى نفسَهُ حظَّها مِن المباحِ بنيّةِ التَّقوِّي بهِ على أعمالِ الطَّاعاتِ (٤)؛ كانَ مأْجورًا في ذلكَ، كما قالَ مُعاذ: إنِّي أحْتَسِبُ نومتي كما أحْتَسِبُ قومتي. ومَن قَصَّرَ في حقِّها حتَّى ضَعُفَتْ وتَضَرَّرَتْ؛ كانَ ظالمًا لها. وإلى هذا أشارَ - صلى الله عليه وسلم - بقولهِ لعَبْدِ اللهِ بن عَمْرٍو: "إنَّكَ إذا فَعَلْتَ ذلكَ نَفِهَتْ لهُ النَّفسُ وهَجَمَتْ لهُ العينُ" (٥). ومعنى نَفِهَتْ:


(١) في خ: "من تلاوة القرآن"، وما أثبتّه من م ون وط أولى بالسياق.
(٢) قطعة من حديث ابن عمرو المتّفق عليه الذي تقدّم تخريجه (ص ٢٩٥).
(٣) قطعة من حديث ابن عمرو المتّفق عليه الذي تقدّم تخريجه (ص ٢٩٥).
(٤) في خ: "بنية التقوّي به على تقويتها على أعمال الطاعات"! والأولى ما أثبتّه من م ون وط.
(٥) قطعة من حديث ابن عمرو المتفق عليه الذي تقدّم تخريجه (ص ٢٩٥).

<<  <   >  >>