للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

• وهذا كلُّهُ يَدُلُّ على أن أفضلَ الصِّيامِ ألَّا يُسْتَدامَ، بل يُعاقَبُ بينَهُ وبينَ الفطرِ، وهذا هوَ الصَّحيحُ مِن قولَـ[ـي] العلماءِ، وهوَ مذهبُ أحْمَدَ وغيرِهِ.

وقيلَ لِعُمَرَ: إنَّ فلانًا يَصومُ الدَّهرَ. فجَعَلَ يَقْرَعُ رأْسَهُ بقناةٍ معَهُ ويَقولُ: كُلْ يا دهرُ! كُلْ يا دهرُ! خَرَّجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ.

• وقد أشارَ - صلى الله عليه وسلم - إلى الحكمةِ في ذلكَ مِن وجوهٍ:

- منها: قولُهُ - صلى الله عليه وسلم - في صيامِ الدَّهرِ: "لا صامَ ولا أفْطَرَ" (١)؛ يَعْني: أنَّهُ لا يَجِدُ مشقَّةَ الصِّيامِ ولا فقدَ الطَّعامِ والشَّرابِ والشَّهوةِ؛ لأنَّهُ صارَ الصِّيامُ لهُ عادةً مأْلوفةً، فربَّما تَضَرَّرَ بتركِهِ، فإذا صامَ تارةً وأفْطَرَ أُخرى؛ حَصَلَ لهُ بالصِّيامِ مقصودُهُ بتركِ هذهِ الشَّهواتِ، وفي نفسِهِ داعية إليها، وذلكَ أفضلُ مِن أنْ يَتْرُكَها ونفسُهُ لا تتوقُ إليها.

- ومنها: قولُهُ - صلى الله عليه وسلم - في حقِّ داوودَ عليهِ السَّلامُ: "كانَ يَصومُ يومًا ويُفْطِرُ يومًا ولا يَفِرُّ إذا لاقى" (٢)؛ يُشيرُ إلى أنَّهُ كانَ لا يُضْعِفُهُ صيامُهُ عن ملاقاةِ عدوِّهِ ومجاهدتِهِ في سبيلِ اللهِ. ولهذا رُوِيَ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ قالَ لأصحابِهِ يومَ الفتحِ وكانَ في رمضانَ: "إنَّ هذا يومُ قتالٍ فأفْطِروا" (٣). وكانَ عُمَرُ إذا بَعَثَ سريَّةً؛ قالَ لهُم: لا تَصوموا؛ فإنَّ التَّقوِّيَ على الجهادِ أفضلُ مِن الصَّومِ.

فأفضلُ الصَّومِ ألَّا يُضْعِفَ البدنَ حتَّى يَعْجِزَ عمَّا هوَ أفضلُ منهُ؛ مِن القيامِ بحقوق اللهِ أو حقوقِ عباده اللازمةِ، فإنْ أضْعَفَ عن شيءٍ مِن ذلكَ ممَّا هوَ أفضلُ منهُ؛ كانَ تركُهُ أفضلَ.

فالأوَّلُ: مثلُ أنْ يُضْعِفَ الصِّيامُ البدنَ عن الصَّلاةِ أو عن الذِّكرِ أو العلمِ، كما قيلَ


(١) رواه مسلم (١٣ - الصيام، ٣٥ - النهي عن صوم الدهر، ٢/ ٨١٨/ ١١٦٢) من حديث أبي قتادة.
(٢) قطعة من حديث ابن عمرو المتّفق عليه الذي تقدّم تخريجه (ص ٢٩٥).
(٣) رواه مسلم (١٣ - الصيام، ١٦ - أجر المفطر في السفر، ٢/ ٧٨٩/ ١١٢٠) من حديث أبي سعيد رفعه بلفظ: "إنّكم مصبّحو عدوّكم، والفطر أقوى لكم، فأفطروا".
وهو عند ابن سعد (٢/ ١٤٠) من حديث أبي سعيد بلفظ: "حتى إذا بلغنا مرّ الظهران أعلمنا أنّا نلقى العدوّ وأمرنا بالفطر".
وأمّا هذا اللفظ بالتحديد فعند: عبد الرزّاق (٩٦٨٨)، وابن سعد (٢/ ١٤١)؛ من حديث عبيد بن عمير مرسلًا. وسند قويّ. ويشهد له حديث أبي سعيد المتقدّم.

<<  <   >  >>