للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وأسبابُ الرَّحمةِ يُرَجِّي بها عبادَهُ، مثلُ الغيمِ الرَّطبِ والرِّيحِ الطَّيِّبةِ، ومثلُ المطرِ المعتادِ عندَ الحاجةِ إليهِ، ولهذا يُقالُ عندَ نزولِ الغيثِ: اللهمَّ! سُقْيا رحمةٍ ولا سُقْيا عذابٍ.

وأمَّا مَنِ اتَّقى أسبابَ الضَّررِ بعدَ انعقادِها بالأسبابِ المنهيِّ عنها؛ فإنَّهُ لا يَنْفَعُهُ ذلكَ غالبًا: كمَن رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ عن حاجتِهِ خشيةَ أنْ يُصيبَهُ ما تَطَيَّرَ بهِ؛ فإنَّهُ كثيرًا ما يُصابُ بما يَخْشى منهُ، كما قالَ ابنُ مَسْعودٍ، ودَلَّ عليهِ حديثُ أنَسٍ المتقدِّمُ. وكمَنِ اتَّقى الطَّاعونَ الواقعَ في بلدِهِ بالفرارِ منهُ؛ فإنَّهُ قَلَّ أنْ يُنْجِيَهُ ذلكَ. وقد فَرَّ كثيرٌ مِن المتقدِّمينَ والمتأخِّرينَ مِن الطَّاعونِ فأصابَهُم ولمْ يَنْفَعْهُمُ الفرارُ. وقد قالَ اللهُ تَعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة: ٢٤٣]. وقد ذُكِرَ كثيرٌ مِن السَّلفِ أنَّهُم كانوا قد فَرُّوا مِن الطَّاعونِ فأصابَهُم. وفَرَّ بعضُ المتقدِّمينَ مِن طاعونٍ وَقَعَ، فبينا هوَ يَسيرُ بالليلِ على حمارٍ لهُ؛ إذْ سَمِعَ قائلًا يَقولُ:

لَنْ يُسْبَقَ اللهُ عَلى حِمارِ … وَلا عَلى ذي مَيْعَةٍ طَيَّارِ (١)

أوْ يَأْتِيَ الحَتْفُ عَلى مِقْدارِ … قَدْ يُصْبِحُ اللهُ أمامَ السَّاري

فأصابَهُ الطَّاعونُ فماتَ.

• وأمَّا قولُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "لا هامةَ"؛ فهوَ نفيٌ لِما كانَتِ الجاهليَّهُ تَعْتَقِدُهُ أن الميِّتَ إذا ماتَ صارَتْ روحُهُ أو عظامُهُ هامةً، وهوَ طائرٌ يَطيرُ. وهو شبيهٌ باعتقادِ أهلِ التَّناسخِ أن أرواحَ الموتى تَنْتَقِلُ إلى أجسادِ حيواناتٍ مِن غيرِ بعثٍ ولا نشورٍ، وكلُّ هذهِ اعتقاداتٌ باطلةٌ جاءَ الإسلامُ لإبطالِها وتكذيبِها.

ولكنِ الذي جاءَتْ بهِ الشَّريعةُ "أنَّ أرواحَ الشُّهداءِ في حواصلِ طيرٍ خضرٍ تَأْكُلُ مِن ثمارِ الجنَّةِ وتَرِدُ مِن أنهارِ الجنَّةِ إلى أنْ يَرُدَّها اللهُ تَعالى إلى أجسادِها يومَ القيامةِ" (٢).

ورُوِيَ أيضًا "أن نسمةَ المؤمنِ طائرٌ يَعْلُقُ في شجرِ الجنَّةِ حتَّى يَرْجِعَها اللهُ إلى


(١) ذو الميعة: الفرس، والميعة: الجري. والطيّار: الذي جرى به صاحبه بأقصى سرعة.
(٢) رواه مسلم (٣٣ - الإمارة، ٣٣ - أرواح الشهداء في الجنّة، ٣/ ١٥٠٢/ ١٨٨٢) عن ابن مسعود.

<<  <   >  >>