للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وهذا كلُّهُ ممَّا يَدُلُّ على أن الأسبابَ المكروهةَ إذا وُجِدَتْ فإنَّ المشروعَ الاشتغالُ بما يُرْجى بهِ دفعُ العذابِ المخوفِ منها؛ مِن أعمالِ الطَّاعاتِ والدُّعاءِ وتحقيقِ التَّوكُّلِ على اللهِ والثِّقةِ بهِ؛ فإنَّ هذهِ الأسبابَ كلَّها مقتضِياتٌ لا موجباتٌ، ولها موانعُ تَمْنَعُها. فأعمالُ البرِّ والتَّقوى والدُّعاءُ والتَّوكُّلُ مِن أعظمِ ما يُسْتَدْفَعُ بهِ.

ومِن كلامِ بعضِ الحكماءِ المتقدِّمينَ: ضجيجُ الأصوات في هياكلِ العبادات بأفنانِ اللغات تُحَلِّلُ ما عَقَدَتْهُ الأفلاكُ الدَّائرات (١).

وهذا على زعمِهِم واعتقادِهِم في الأفلاكِ، وأمَّا اعتقادُ المسلمينَ؛ فأنَّ الله وحدَهُ هوَ الفاعلُ لِما يَشاءُ، ولكنَّهُ يَعْقِدُ أسبابًا للعذابِ وأسبابًا للرَّحمةِ، فأسبابُ العذابِ يُخَوِّفُ بها عبادَهُ لِيَتوبوا إليهِ ويَتَضَرَّعوا إليهِ، مثلُ كسوفِ الشَّمسِ والقمرِ؛ فإنَّهُما آيتانِ مِن آياتِ اللهِ يُخَوِّفُ بهِما عبادَهُ؛ لِيَنْظُرَ مَن يُحْدِثُ لهُ توبةً، فدَلَّ على أن كسوفَهُما سببٌ يُخْشى منهُ وقوعُ عذابٍ.

وقدْ أمَرَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنْ تَسْتَعيذَ مِن شرِّ القمرِ، وقالَ: "هوَ الغاسقُ إذا وَقَبَ" (٢). وقد أمَرَ اللهُ تَعالى بالاستعاذةِ مِن شرِّ غاسقٍ إذا وَقَبَ، وهوَ الليلُ إذا أظْلَمَ؛ فإنَّهُ تَنْتَشِرُ فيهِ شياطينُ الجِنِّ والإنسِ. والاستعاذةُ مِن القمرِ لأنَّهُ آيةُ الليلِ، وفيهِ إشارةٌ إلى أنَّ شرَّ الليلِ المَخُوفَ لا يَنْدَفعُ بإشراقِ القمرِ فيهِ ولا يَصيرُ بذلكَ


(١) الأفلاك الدائرات جمادات مخلوقات مربوبات مسيّرات؛ لا تدلّ على شيء ممّا يجري على العباد من الأقدار فضلًا عن أن تعقد هذه الأقدار وتبرمها، ولا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًّا فضلًا عن أن تملكه لغيرها!
(٢) (صحيح). رواه: الطيالسي (١٤٨٦)، وإسحاق (١٠٧٢)، وأحمد (٦/ ٦١ و ٢٠٦ و ٢١٥ و ٢٣٧ و ٢٥٢)، وعبد بن حميد (١٥١٧)، والترمذي (٤٨ - التفسير، ٩٤ - ومن المعوّذتين، ٥/ ٤٥٢/ ٣٣٦٦)، والنسائي في "الكبرى" (١٠١٣٧ و ١٠١٣٨) و"اليوم والليلة" (٣٠٧ و ٣٠٨)، وأبو يعلى (٤٤٤٠)، وابن جرير (٣٨٣٧٧ و ٣٨٣٧٨)، والطحاوي في "المشكل" (٢/ ٣١٠)، وابن السنّي (٦٤٨)، وأبو الشيخ في "العظمة" (٣٨٠)، والحاكم (٢/ ٥٤٠)، والبيهقي في "الدعوات" (٣١٤)، والبغوي في "التفسير" (٥/ ٦٥٥) و"السنّة" (١٣٦٧)، والمزّي في "التهذيب" (٢٨/ ٥١٣)؛ من طريق محمّد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن والمنذر بن أبي المنذر، عن أبي سلمة، عن عائشة … رفعته.
وهذا سند قويّ، رجاله كلّهم ثقات إلّا الحارث فصدوق ولكنّه توبع كما ترى، والمنذر صالح الحديث، فالسند صحيح بهذه المتابعة. وقد قوّاه الترمذيّ والحاكم والبغوي وعبد الحقّ والذهبي والألباني، وقال العسقلاني: "أقلّ درجاته أن يكون حديثًا حسنًا".

<<  <   >  >>