للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

صلى الله عليه وسلم، والْمُرَاد بِه تَوْبِيخ الكُفَّار؛ لأنه لَو سَألَهم أجْرًا فأثْقَلهم غُرْم ذلك لَكَان لهم بَعْض العُذْر في إعْرَاضِهم وقَرَارِهم" (١).

ورَبَط الرازي آيَة "الأنعام": بِأوَّلِها، وهو قَوله تَعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) "فَالْمُرَاد بِه أنه تَعالى لَمَّا أمَرَه بالاقْتِدَاء بِهُدَى الأنْبياء عليهم السلام الْمُتَقَدِّمِين، وكان مِنْ جُمْلة هُدَاهم تَرْك طَلَب الأجْر في إيصَال الدِّين وإبْلاغ الشَّرِيعة - لا جَرَم اقْتَدَى بِهم في ذلك، فَقَال: (لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا) ولا أطْلُب مِنْكم مَالًا ولا جُعْلا" (٢).

وأوْضَح الْمَعْنَى الإجْمَالِي لآيَة "سبأ" بِذِكْر وَجْه آخَر "يَلْزَم مِنه أنه نَبِيّ إذا لَم يَكُنْ مَجْنُونًا، لأنَّ مَنْ يَرْتَكِب العَنَاء الشَّدِيد لا لِغَرَض عَاجِل - إذا لَم يَكُنْ ذلك فِيه ثَوَاب أُخْرَوي - يَكُون مَجْنُونًا، فالنَّبِيّ عليه السلام بِدَعْواه النُّبُوَّة يَجْعَل نَفْسَه عُرْضَة للهَلاك عَاجِلًا؛ فإنَّ كُلّ أحَد يَقْصِده ويُعَادِيه، ولا يَطْلُب أجْرًا في الدُّنيا، فهو يَفْعَلُه للآخِرَة، والكَاذِب في الآخِرَة مُعَذَّب لا مُثاب، فلو كَان كَاذِبًا لكَان مَجنونا، لكنه ليس بِمَجْنُون، فَلَيس بِكَاذِب، فهو نَبِيّ صَادِق" (٣).

وبيَّن مَعنًى لَطِيفًا في آية "ص" إذ يَقُول: اعْلَم أنَّ الله تعالى خَتَم هَذه السّورة بهذه الْخَاتِمَة الشَّرِيفَة، وذلك لأنه تَعالى ذَكَر طُرُقًا كَثيرة دَالَّة على وُجُوب الاحْتِيَاط في طَلَب الدِّين، ثم قال (٤) عند الْخَتْم: هَذا الذي أدْعو النَّاس إليه يَجِب أن يُنْظَر في حَال الدَّاعِي وفي حَال الدَّعْوة، لِيَظْهَر أنه حَقّ أوْ بَاطِل؛ أمَّا الدَّاعِي - وهو أنا، فأنا لا أسْألُكُم على هذه الدَّعْوَة أجْرًا ومَالًا، ومِن الظَّاهِر أنَّ الكَذّاب لا يَنْقَطِع طَمَعُه عَنْ


(١) المحرر الوجيز، مرجع سابق (٥/ ٣٥٤).
(٢) التفسير الكبير، مرجع سابق (١٣/ ٥٩).
(٣) المرجع السابق (٢٥/ ٢٣٣).
(٤) أي: النبي صلى الله عليه وسلم، إذ هو الْمُبلّغ عن الله.

<<  <   >  >>