للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

واستدلّ الرازي بالآية على أنَّ "الكُفْر والإيمان بِقَضَاءِ الله وقَدَرِه" (١)، وضَعَّف القَول بالتَّقْدِيم والتَّأخِير، فقال:

ومَعْنى تَقْلِيب الأفْئدَة والأبْصَار: هو أنه إذا جاءتهم الآيات القَاهِرَة التي اقْتَرَحُوها وعَرَفُوا كَيْفِيَّة دَلالَتها على صِدْق الرَّسُول - إلَّا أنه تَعالى إذا قَلّب قُلُوبَهم وأبْصَارَهم عن ذلك الوَجْه الصَّحِيح - بَقُوا على الكُفْر، ولَم يَنْتَفِعُوا بِتِلْك الآيات. والْمَقْصُود مِنْ هذه الآية تَقْرير مَا ذَكَرْنَاه في الآية الأولى مِنْ أنَّ تِلك الآيات القَاهِرة لَو جَاءتهم لَمَا آمَنُوا بها، ولَمَا انْتَفَعُوا بِظُهُورِها البتة.

وأوْرَد أجْوِبَة الْمُعْتَزِلَة وضَعَّفَها (٢).

ثم اخْتَارَ أنَّ قَوله تَعالى: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ) "مَحْمُول على هذا الْمَعْنى الظَّاهِر الْجَلِيّ الذي يَشْهَد بِصِحَّتِه كُلّ طَبْع سَلِيم وعَقْل مُسْتَقِيم، فلا حَاجَة البتة إلى ما ذَكَرُوه منَ التَّأوِيلات الْمُسْتَكْرَهَة، وإنما قَدَّم الله تَعالى ذِكْرَ تَقْلِيب الأفْئدَة عَلى تَقْلِيب الأبْصَار لأنَّ مَوضِع الدَّواعِي والصَّوَارِف هوَ القَلْب، فإذا حَصَلَتِ الدَّاعِية في القَلْب انْصَرَف البَصَر إليه شَاء أم أبَى، وإذا حَصَلَتِ الصَّوَارِف في القَلْبِ انْصَرَف البَصَر عنه، فَهو وإن كان يُبْصِرُه في الظَّاهِر إلَّا أنه لا يَصير ذلك الإبْصَار سَببًا للوُقُوف عَلى الفَوائد الْمَطْلُوبة. وهذا هو الْمُرَاد مِنْ قوله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا) [الأنعام: ٢٥]، فَلَمَّا كَان الْمَعْدِن هو القَلْب وأمَّا السَّمْع والبَصَر فَهُمَا آلَتَان للقَلْب كَانَا لا مَحَالة تابِعَين لأحْوال القَلْب؛ فَلِهَذا السَّبَب وَقَع الابْتِدَاء بِذِكْرِ تَقْلِيب القُلُوب في هذه الآية، ثم أتْبَعَه بِذِكْرِ تَقْلِيب البَصَر، وفي الآية الأخْرَى وَقَع الابْتِدَاء بِذِكْرِ تَحْصِيل الكِنَان (٣) في القَلْب ثم أتْبَعَه بِذِكْر السَّمْع، فَهذا هُو الكَلام


(١) التفسير الكبير، مرجع سابق (١٣/ ١٢٠). أي أن وُقُوع الكُفْر والإيمان إنما يَكُون بِقضَاء الله وقَدَرِه ويُراجَع لهذا المسألة: "العقيدة الأصفهانية"، ابن تيمية (ص ٢٩)، و "شِفَاء العَلِيل في مسائل القَضَاء والقَدَر والْحِكْمَة والتَّعْلِيل"، ابن القيم (١/ ٩١ وما بعدها).
(٢) التفسير الكبير، مرجع سابق (١٣/ ١٢٠) باختصار.
(٣) في اللسان (١٣/ ٣٦٠): الكِنَان وِقَاء كلّ شَيء وسِتْره، والْكَنّ البَيْت أيضًا، والْجَمْع: أكْنَان وأكِنَّة ومُراد الرازي مَا جَاء في الآية التي ذَكَرها قبل قليل (آية الأنعام ٢٥).

<<  <   >  >>