للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

• أجرينا استبيانًا على عينة من المثقفين حول قضية «الدولة الدينية والدولة العلمانية»، وجاءت أكثر المغالطات ظهورًا في العينة مغالطة «تجاهل المطلوب» تليها «المصادرة على المطلوب» … ما دلالة ذلك من وجهة نظرك؟

- مغالطة «تجاهل المطلوب» ignoratio elenchi مغالطةٌ جذابة حقًّا! لأن الحجة فيها منتِجة، غير أنها منتِجة لشيءٍ آخر غير الشيء المطلوب البرهنة عليه، الأهداف التي تسعَى إليها الدولة الدينية (وغير الدينية في حقيقة الأمر) هي أهدافٌ نبيلة مرجوة، ولكن السؤال الصعب حقًّا هو: هل البرنامج المحدد لهذه الدولة كفيلٌ ببلوغ هذه الأهداف؟ وهل هو أجدَى في بلوغ هذه الأهداف من غيره من البرامج الممكنة؟ إن التغافل عن هذا السؤال الأصلي وتغييبه في عمومياتٍ براقة وغايات كبرى، يجعلنا «نحيد عن المسألة» ونطيش عن المرمى، ونقع في مغالطة «تجاهل المطلوب».

أما «المصادرة على المطلوب» begging the question فهي طريقة أثيرة لدى أصحاب الدعوات الكبرى. إن من السهل دائمًا أن يجرفنا انفعالنا الأيديولوجي ويقيننا المذهبي ويَعصبَ أعيننا عن رؤية أننا في حقيقة الأمر نفترض مقدمًا صدق ما نريد أن نبرهن عليه. ثمة فرق كبير بين السبب الذي يجعلك تعتقد شيئًا ratio credentis وبين السبب الذي يجعل هذا الشيء حقًّا أو صوابًا ratio veritatis.

• في إحدى فقرات الكتاب تقول «وفي محاورة فايدروس يُبيِّن سقراط حجة معينة باختراع أسطورة صغيرة عن القدماء المصريين، فيرد عليه فايدروس بقوله إن بوسع سقراط أن يخترع قصصًا عن المصريين القدماء أو عن أي مكان يشاء، عندئذٍ يرد سقراط باختراع أسطورة أخرى … » إن كان فايدروس قد وقع في مغالطة المنشأ … أفلا يعتبر الاعتماد على أساطير في تبرير الحجة مثلما فعل أفلاطون مغالطة منطقية؟

- لا، ولو قلنا ذلك لوقعنا نحن في «مغالطة المنشأ»، إن للحق أو الصدق معايير ليس من بينها منشأ القضية، هب أن مجنونًا قال لك إن ٢ + ٢ = ٤ فهل تَعُد جنونَه دليلًا على خطأ العبارة؟! والحقيقة أننا نظلم الميثولوجيا كثيرًا لو فهمناها بهذه الطريقة وأخذناها هذا المأخذ، إنما الأسطورةُ استعارةٌ كبيرة! وينبغي أن نفهمها فهمًا مجازيًّا استعاريًّا، وقد سبق لي أن تناولت هذه القضية في كتابي «فهم الفهم» وتساءلتُ: ما الذي يخاطبنا في الأسطورة ومن خلالها؟ ليست الأسطورة وهمًا او كذبةً أو خرافة، إنها حقيقةٌ كبرى نضجت على مهلٍ في ضمير الأجيال كما ينضج اللؤلؤ في ضمير الصَّدف، فاكتسبت قوامًا واتخذت شكلًا وصارت مشهدًا حيًّا يملأ علينا مسارح الوجدان ويأخذ بمجامع الوعي، ويوقظ فينا شيئًا هاجعًا ما كنا لِنذكرَه، وما كنا لننساه.

<<  <   >  >>