ولقد قرأت فصلا ذكره علىّ بن الحسن بن أبى الطّيّب الباخرزىّ فى كتاب دمية القصر مشتملا على حاله، وهو فقد كان فى عصر الشباب، غير مستكمل ما عهدناه عليه من اتساق الأسباب، وهو أن قال: فتى الفتيان، ومن أنجب به الفتيان، ولم يخرّج مثله المفتيان، عنيت النّعمان بن ثابت، ومحمد بن إدريس، فالفقه فقه الشافعىّ، والأدب أدب الأصمعىّ، وحسن بصره بالوعظ للحسن البصرىّ، وكيفما كان فهو إمام كلّ إمام، والمستعلى بهمّته على كلّ همام، والفائز بالظّفر على إرغام كلّ ضرغام، إذا تصدّر [للفقه] فالمزنىّ من مزنته قطرة، وإذا تكلّم فالأشعرىّ من وفرته شعرة، وإذا خطب ألجم الفصحاء بالعىّ شقاشقه الهادرة، ولثم البلغاء بالصمت حقائقه البادرة، ولولا سدّه مكان أبيه بسدّه الذى أفرغ على قطره قطر تأبّيه، لأصبح مذهب الحديث حديثا، ولم يجد المستغيث منهم مغيثا.
قال أبو الحسن [الفارسى]: هذا وهو وحقّ الحقّ فوق ما ذكره، وأعلى مما وصفه، فكم من فصل مشتمل على العبارات الفصيحة العالية، والنّكت البديعة النادرة فى المحافل منه سمعناه.
وكم من مسائل فى النظر شهدناه ورأينا منه إفحام الخصوم وعهدناه.
وكم من مجلس فى التذكير للعوام مسلسل المسائل مشحون بالنّكت المستنبطة من مسائل الفقه، مشتملة على حقائق الأصول، مبكّية فى التحذير، مفرجة فى التبشير، مختومة بالدعوات وفنون المناجاة حضرناه.
وكم من مجمع للتدريس حاو للكبار من الأئمة، وإلقاء المسائل عليهم والمباحثة فى غورها رأيناه،
وحصّلنا بعض ما أمكننا منه وعلّقناه، ولم نقدر ما كنا فيه من نضرة أيامه، وزهرة شهوره وأعوامه حقّ قدره، ولم نشكر الله عليه حقّ شكره، حتى فقدناه وسلبناه.
وسمعته فى أثناه كلام يقول: أنا لا أنام ولا آكل عادة، وإنما أنام إذا غلبنى النوم ليلا كان أو نهارا، وآكل إذا اشتهيت الطعام أىّ وقت كان.
وكان لذته ولهوه ونزهته [فى] مذاكرة العلم، وطلب الفائدة من أىّ نوع كان.
ولقد سمعت الشيخ أبا الحسن علىّ بن فضّال بن علىّ المجاشعىّ النحوىّ القادم علينا سنة تسع وستين وأربعمائة، يقول وقد قبله الإمام فخر الإسلام وقابله بالإكرام، وأخذ فى قراءة النحو عليه والتلمذة له، بعد أن كان إمام الأئمة فى وقته، وكان يحمله كلّ يوم إلى داره، ويقرأ عليه كتاب