للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

خفي لزومه للمعنى الأول١, كقول العباس بن الأحنف٢:

سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا ... وتسكب عيناي الدموع لتجمدا

عبر بالسين الدالة على معنى التسويف -وإن كان مراده الطلب في الحال- لاعتبار لطيف هو أن البعد عن الديار -وإن كان في زعمه وسيلة للقرب من الأحبة، وهو ما يأمله ويبتغيه- جدير أن يسوف, ولا يطلب في الحال لأنه في ذاته مبغض؛ غير مرغوب فيه, و"تسكب" برفع الباء عطف على "أطلب" مجردا عن السين؛ لأن البكاء شعار المحبين وسمة العاشقين, فالتسويف فيه لا يناسب حالهم. ولا يصح فيه نصب الباء؛ لأنه إما أن يكون معطوفا على "بعد الدار"، أو معطوفا على "لتقربوا" وهو لا يحسن في الأول، ولا يصح في الثاني.


١ اعلم أن المراد بخفاء دلالة الكلام على المعنى المراد بطء إدراك المراد منه، وأن المراد بخلل انتقال الذهن بطء انتقاله من المعنى الأصلي إلى المعنى المراد بسبب استعمال المتكلم اللفظ في اللازم الخفي أي: في معنى خفيت علاقته بالمعنى الأصلي. وإذًا فبطء انتقال الذهن من الأول إلى الثاني سبب في بطء فهم المعنى المقصود من اللفظ, كما أن سرعة انتقال الذهن من المعنى الأصلي إلى المعنى المراد سبب في سرعة إدراك المراد من اللفظ, والمراد بالذهن ذهن السامع على ما هو الظاهر؛ لأن الخفاء والظهور إنما هو بالنسبة إليه، وليس من شك أن السامع إذا سمع اللفظ فبطؤ انتقال ذهنه من المعنى الأول إلى الثاني بسبب استعمال اللفظ فيما خفي لزومه للمعنى الأول خفيف عليه دلالة اللفظ أي: بطؤ إدراك المراد منه. "وحاصل المسألة" أن شرط فصاحة الكلام أن يكون المعنى الثاني المراد قريبا فهمه من المعنى الأصلي كمعنى "الكرم" المفهوم من كثرة الرماد في قولك: محمد كثير الرماد, وكمعنى "الشجاع" المفهوم من الأسد في قولك: رأيت أسدا يعطي. فإن كان المعنى الثاني بعيدا فهمه من المعنى الأول, يحتاج في إدراكه إلى تكلف وتمحل بسبب استعمال اللفظ فيما لزم معناه لزوما خفيا, كان الكلام معقدا, فلا يكون فصيحا كما في قول ابن الأحنف.
٢ من ندماء هارون الرشيد, وكان لطيف المجلس فكه الحديث.

<<  <  ج: ص:  >  >>