للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَتَدَبَّرْ هَذَا، فَإِنَّهُ يُنَبِّهُ عَلَى أَصْلٍ عَظِيمٍ ضَلَّ فِيهِ مِنْ طَوَائِفِ النُّسَّاكِ وَالصُّوفِيَّةِ وَالْعُبَّادِ وَالْعَامَّةِ مَنْ لَا يُحْصِيهِمْ إلَّا اللَّهُ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الدُّعَاءِ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ، وَأَمْرَ اسْتِحْبَابٍ، وَبَيْنَ الدُّعَاءِ الَّذِي نُهُوا عَنْهُ أَوْ لَمْ يُؤْمَرُوا بِهِ وَلَمْ يُنْهُوا عَنْهُ؛ فَإِنَّ دُعَاءَ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ وَمَسْأَلَتَهُ إيَّاهُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: نَوْعٌ أُمِرَ الْعَبْدُ بِهِ إمَّا أَمْرَ إيجَابٍ وَإِمَّا أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ، مِثْلُ قَوْلِهِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: ٦] .

وَمِثْلُ دُعَائِهِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ، كَالدُّعَاءِ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُ بِهِ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: «إذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ: مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَفِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَفِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ» .

فَهَذَا دُعَاءٌ أَمَرَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَدْعُوا بِهِ فِي آخِرِ صَلَاتِهِمْ، وَقَدْ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ مَشْرُوعٌ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَرْضَاهُ، وَتَنَازَعُوا فِي وُجُوبِهِ، فَأَوْجَبَهُ طَاوُسٌ وَطَائِفَةٌ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَالْأَكْثَرُونَ قَالُوا: هَذَا مُسْتَحَبٌّ، وَالْأَدْعِيَةُ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْعُو بِهَا لَا يَخْرُجُ عَنْ أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً أَوْ مُسْتَحَبَّةً، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَاجِبِ وَالْمُسْتَحَبِّ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ، وَمَنْ فَعَلَهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَرْضَاهُ، فَهَلْ يَكُونُ مِنْ الرِّضَا تَرْكُ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ.

وَنَوْعٌ مِنْ الدُّعَاءِ يُنْهَى عَنْهُ، كَالِاعْتِدَاءِ، مِثْلَ أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلَ مَا لَا يَصْلُحُ مِنْ خَصَائِصِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَيْسَ هُوَ بِنَبِيٍّ، وَرُبَّمَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، مِثْلَ أَنْ يَسْأَلَ لِنَفْسِهِ الْوَسِيلَةَ الَّتِي لَا تَصْلُحُ إلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ، أَوْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا، أَوْ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا، وَأَنْ يَرْفَعَ عَنْهُ كُلَّ حِجَابٍ يَمْنَعُهُ مِنْ مُطَالَعَةِ الْغُيُوبِ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. أَوْ مِثْلُ مَنْ يَدْعُوهُ ظَانًّا أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى عِبَادِهِ، وَأَنَّهُمْ يَبْلُغُونَ ضُرَّهُ وَنَفْعَهُ، فَيَطْلُبُ مِنْهُ ذَلِكَ الْفِعْلَ، وَيَذْكُرُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَفْعَلْهُ حَصَلَ لَهُ مِنْ الْخَلْقِ ضَيْرٌ.

<<  <  ج: ص:  >  >>