أَيْضًا مُبَاحَةً مُسْتَوِيَةَ الطَّرَفَيْنِ، وَلَوْ قِيلَ: إنَّهَا كَذَلِكَ فَفِعْلُ الْمُبَاحِ الْمُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ لَا يُنَافِي الرِّضَا، إذْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الرَّاضِي أَنْ لَا يَأْكُلَ وَلَا يَشْرَبَ وَلَا يَلْبَسَ وَلَا يَفْعَلَ أَمْثَالَ هَذِهِ الْأُمُورِ. فَإِذَا كَانَ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ لَا يُنَافِي رِضَاهُ، دُعَاءٌ وَسُؤَالٌ، هُوَ مُبَاحٌ.
وَإِذَا كَانَ السُّؤَالُ وَالدُّعَاءُ كَذَلِكَ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا، فَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ يَرْضَى بِفِعْلِ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ، فَكَيْفَ يَكُونُ الرَّاضِي الَّذِي مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ لَا يَفْعَلُ مَا يَرْضَاهُ وَيُحِبُّهُ، بَلْ يَفْعَلُ مَا يُسْخِطُهُ وَيَكْرَهُهُ، وَهَذِهِ صِفَةُ أَعْدَاءِ اللَّهِ لَا أَوْلِيَاءِ اللَّهِ.
وَالْقُشَيْرِيُّ قَدْ ذَكَرَ فِي أَوَائِلِ بَابِ الرِّضَا، فَقَالَ: اعْلَمْ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَرْضَى بِقَضَاءِ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَ بِالرِّضَا بِهِ، إذْ لَيْسَ كُلُّ مَا هُوَ بِقَضَائِهِ يَجُوزُ لِلْعَبْدِ، أَوْ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ الرِّضَا بِهِ، كَالْمَعَاصِي، وَفُنُونِ مِحَنِ الْمُسْلِمِينَ.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ، قَالَهُ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ وَمَعَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى، وَأَمْثَالِهِمَا، لَمَّا احْتَجَّ عَلَيْهِمْ الْقَدَرِيَّةُ بِأَنَّ الرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّهِ مَأْمُورٌ بِهِ، فَلَوْ كَانَتْ الْمَعَاصِي بِقَضَاءِ اللَّهِ لَكُنَّا مَأْمُورِينَ بِالرِّضَا بِهَا، وَالرِّضَا بِمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ لَا يَجُوزُ فَأَجَابَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ عَنْ ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ وَجَوَابُ هَؤُلَاءِ وَجَمَاهِيرُ الْأَئِمَّةِ، أَنَّ هَذَا الْعُمُومَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَلَسْنَا مَأْمُورِينَ أَنْ نَرْضَى بِكُلِّ مَا قَضَى وَقَدَّرَ، وَلَمْ يَجِئْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَمْرٌ بِذَلِكَ، وَلَكِنْ عَلَيْنَا أَنْ نَرْضَى بِمَا أُمِرْنَا أَنْ نَرْضَى بِهِ، كَطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو الْقَاسِمِ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّا نَرْضَى بِالْقَضَاءِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ اللَّهِ أَوْ فِعْلُهُ، لَا بِالْمَقْضِيِّ الَّذِي هُوَ مَفْعُولُهُ. وَفِي هَذَا الْجَوَابِ ضَعْفٌ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ قَالُوا: هَذِهِ الْمَعَاصِي لَهَا وَجْهَانِ: وَجْهٌ إلَى الْعَبْدِ، مِنْ حَيْثُ هِيَ فِعْلُهُ، وَصُنْعُهُ، وَكَسْبُهُ.
وَوَجْهٌ إلَى الرَّبِّ مِنْ حَيْثُ هُوَ خَلَقَهَا، وَقَضَاهَا، وَقَدَّرَهَا، فَيَرْضَى مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي يُضَافُ بِهِ إلَى اللَّهِ، وَلَا يَرْضَى مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي يُضَافُ بِهِ إلَى الْعَبْدِ، إذْ كَوْنُهَا شَرًّا وَقَبِيحَةً وَمُحَرَّمًا وَسَبَبًا لِلْعَذَابِ وَالذَّمِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ، إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا مُضَافَةً إلَى الْعَبْدِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute