للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إلَّا مَعَ الْعِلْمِ بِذَلِكَ، لَا يَجُوزُ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ لَمْ يَسْمَعْ مَعَ إمْكَانِ الْجَهْرِ بِلَا سَمَاعٍ.

وَاللَّفْظُ الْآخَرُ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «صَلَّيْت خَلْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَجْهَرُ، أَوْ قَالَ: يُصَلِّي بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» ، فَهَذَا نُفِيَ فِيهِ السَّمَاعُ، وَلَوْ لَمْ يُرْوَ إلَّا هَذَا اللَّفْظُ لَمْ يَجُزْ تَأْوِيلُهُ، بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ جَهْرًا، وَلَا يَسْمَعُ أَنَسٌ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ أَنَسًا إنَّمَا رَوَى هَذَا لِيُبَيِّنَ لَهُمْ مَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُهُ، إذْ لَا غَرَضَ لِلنَّاسِ فِي مَعْرِفَةِ كَوْنِ أَنَسٍ سَمِعَ أَوْ لَمْ يَسْمَعْ، إلَّا لِيَسْتَدِلُّوا بِعَدَمِ سَمَاعِهِ عَلَى عَدَمِ الْمَسْمُوعِ، فَلَوْ لَوْ يَكُنْ مَا ذَكَرَهُ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ أَنَسٌ لِيَرْوِيَ شَيْئًا لَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِيهِ، وَلَا كَانُوا يَرْوُونَ مِثْلَ هَذَا الَّذِي لَا يُفِيدُهُمْ. الثَّانِي: أَنَّ مِثْلَ هَذَا اللَّفْظِ صَارَ دَالًّا فِي الْعُرْفِ عَلَى عَدَمِ مَا لَمْ يُدْرَكْ، فَإِذَا قَالَ: مَا سَمِعْنَا، أَوْ مَا رَأَيْنَا، لِمَا شَأْنُهُ أَنْ يَسْمَعَهُ وَيَرَاهُ، كَانَ مَقْصُودُهُ بِذَلِكَ نَفْيَ وُجُودِهِ، وَذِكْرُ نَفْيِ الْإِدْرَاكِ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ دَلِيلٌ فِيمَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِإِدْرَاكِهِ.

وَهَذَا يَظْهَرُ بِالْوَجْهِ الثَّالِثِ وَهُوَ: أَنَّ أَنَسًا كَانَ يَخْدُمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حِينِ قَدِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ إلَى أَنْ مَاتَ، وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَى نِسَائِهِ قَبْلَ الْحِجَابِ، وَيَصْحَبُهُ حَضَرًا وَسَفَرًا وَكَانَ حِينَ حَجَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَحْتَ نَاقَتِهِ يَسِيلُ عَلَيْهِ لُعَابُهَا أَفَيُمْكِنُ مَعَ هَذَا الْقُرْبِ الْخَاصِّ، وَالصُّحْبَةِ الطَّوِيلَةِ أَنْ لَا يَسْمَعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجْهَرُ بِهَا، مَعَ كَوْنِهِ يَجْهَرُ بِهَا هَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ بُطْلَانُهُ فِي الْعَادَةِ.

ثُمَّ إنَّهُ صَحِبَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَتَوَلَّى لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وِلَايَاتٍ، وَلَا كَانَ يُمْكِنُ مَعَ طُولِ مُدَّتِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْهَرُونَ، وَهُوَ لَا يَسْمَعُ ذَلِكَ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا تَحْرِيفٌ لَا تَأْوِيلٌ، لَوْ لَمْ يُرْوَ إلَّا هَذَا اللَّفْظُ، فَكَيْفَ وَالْآخَرُ صَرِيحٌ فِي نَفْيِ الذِّكْرِ بِهَا، وَهُوَ يَفْضُلُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى. وَكِلَا الرِّوَايَتَيْنِ يَنْفِي تَأْوِيلَ مَنْ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ: يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ (بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) أَنَّهُ أَرَادَ السُّورَةَ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: يَفْتَتِحُونَ، (بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) لَا يَذْكُرُونَ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ، وَلَا فِي آخِرِهَا، صَرِيحٌ أَنَّهُ فِي قَصْدِ الِافْتِتَاحِ بِالْآيَةِ، لَا بِسُورَةِ الْفَاتِحَةِ الَّتِي أَوَّلُهَا {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} إذْ لَوْ كَانَ مَقْصُودُهُ ذَلِكَ لَتَنَاقَضَ حَدِيثَاهُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>