فِيهِ لِيُرْضِيَهُ أَيَأْثَمُ فِي ذَلِكَ؟ قَالَ أَلَمْ تَسْمَعْ إلَى قَوْلِهِ لَيْسَ بِكَاذِبٍ مَنْ أَصْلَحَ بَيْنَ النَّاسِ فَكَذَبَ فِيهِ فَإِذَا أَصْلَحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مَرْضَاةَ اللَّهِ وَكَرَاهَةَ أَذَى الْمُؤْمِنِ وَيَنْدَمُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ وَيَدْفَعُ شَرَّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يُرِيدُ بِالْكَذِبِ اتِّخَاذَ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَهُمْ وَلَا لِطَمَعِ شَيْءٍ يُصِيبُ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ لَمْ يُرَخِّصْ فِي ذَلِكَ وَرَخَّصَ لَهُ إذَا كَرِهَ مَوْجِدَتَهُمْ وَخَافَ عَدَاوَتَهُمْ. قَالَ حُذَيْفَةُ إنِّي أَشْتَرِي دِينِي بَعْضَهُ بِبَعْضٍ مَخَافَةَ أَنْ أَتَقَدَّمَ عَلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ وَكَرِهَ أَيْضًا أَنْ يَتَغَيَّرَ قَلْبُهُ عَلَيْهِ، قَالَ سُفْيَانُ وَقَالَ الْمَلَكَانِ: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص: ٢٢] أَرَادَ مَعْنَى شَيْءٍ وَلَمْ يَكُونَا خَصْمَيْنِ فَلَمْ يَصِيرَا بِذَلِكَ كَاذِبَيْنِ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: ٨٩] ، وَقَالَ: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: ٦٣] ، وَقَالَ يُوسُفُ: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: ٧٠] أَرَادَ مَعْنَى أَمْرِهِمْ. فَبَيَّنَ سُفْيَانُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ الْمَعَارِيضِ الْمُبَاحَةِ مِنْ تَسْمِيَتِهِ كَذَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَقِيقَةِ كَذِبًا كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِقِصَّةِ يُوسُفَ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ لِلْإِنْسَانِ التَّوَصُّلُ إلَى أَخْذِ حَقِّهِ مِنْ الْغَيْرِ بِمَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَيْهِ بِغَيْرِ رِضَاءِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ.
وَهَذِهِ الْحُجَّةُ ضَعِيفَةٌ فَإِنَّ يُوسُفَ لَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ حَبْسَ أَخِيهِ عِنْدَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْأَخُ مِمَّنْ ظَلَمَ يُوسُفَ حَتَّى يُقَالَ قَدْ اقْتَصَّ مِنْهُ، وَإِنَّمَا سَائِرُ الْإِخْوَةِ هُمْ الَّذِينَ قَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ، نَعَمْ كَانَ تَخَلُّفُهُ عِنْدَهُ يُؤْذِيهِمْ مِنْ أَجْلِ تَأَذِّي أَبِيهِمْ وَالْمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ وَقَدْ اسْتَثْنَوْا فِي الْمِيثَاقِ إلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ وَقَدْ أُحِيطَ بِهِمْ وَيُوسُفُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ بِاحْتِبَاسِ أَخِيهِ الِانْتِقَامَ مِنْ إخْوَتِهِ فَإِنَّهُ كَانَ أَكْرَمَ مِنْ هَذَا وَكَانَ فِي ضِمْنِ هَذَا مِنْ الْإِيذَاءِ لِأَبِيهِ أَعْظَمُ مِمَّا فِيهِ مِنْ إيذَاءِ إخْوَتِهِ وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ لِيَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ، وَيَتِمَّ الْبَلَاءُ الَّذِي اسْتَحَقَّ بِهِ يَعْقُوبُ وَيُوسُفُ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - كَمَالَ الْجَزَاءِ وَتَبْلُغُ حِكْمَةُ اللَّهِ الَّتِي قَضَاهَا لَهُمْ نِهَايَتَهَا، وَلَوْ كَانَ يُوسُفُ قَصَدَ الِاقْتِصَاصَ مِنْهُمْ بِذَلِكَ فَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ الْخِلَافِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَهُ أَنْ يُعَاقِبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute