للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الرَّسُولِ تَقْتَضِي أَنَّهُ يَمْلِكُهُ.

كَمَا يَمْلِكُ النَّاسُ أَمْلَاكَهُمْ.

ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ غَنَائِمَ بَدْرٍ كَانَتْ مِلْكًا لِلرَّسُولِ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الْفَيْءَ وَأَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ كَانَ مِلْكًا لِلرَّسُولِ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الرَّسُولَ إنَّمَا كَانَ يَسْتَحِقُّ مِنْ الْخُمُسِ خُمُسَهُ.

وَقَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ: وَكَذَلِكَ كَانَ يَسْتَحِقُّ مِنْ خُمُسِ الْفَيْءِ خُمُسَهُ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ تُوجَدُ فِي كَلَامِ طَوَائِفَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ، وَهَذَا غَلَطٌ مِنْ وُجُوهٍ: مِنْهَا: أَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ هَذِهِ الْأَمْوَالَ كَمَا يَمْلِكُ النَّاسُ أَمْوَالَهُمْ، وَلَا كَمَا يَتَصَرَّفُ الْمُلُوكُ فِي مِلْكِهِمْ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ أَنْ يَصْرِفُوا أَمْوَالَهُمْ فِي الْمُبَاحَاتِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لَهُ فَيَصْرِفُهُ فِي أَغْرَاضِهِ الْخَاصَّةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لَهُ فَيَصْرِفُهُ فِي مَصْلَحَةِ مِلْكِهِ، وَهَذِهِ حَالُ النَّبِيِّ الْمَلِكِ كَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ.

قَالَ تَعَالَى: {فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص: ٣٩] أَيْ أَعْطِ مَنْ شِئْت وَاحْرِمْ مَنْ شِئْت لَا حِسَابَ عَلَيْك، وَنَبِيُّنَا كَانَ عَبْدًا رَسُولًا لَا يُعْطِي إلَّا مَنْ أُمِرَ بِإِعْطَائِهِ، وَلَا يَمْنَعُ إلَّا مَنْ أُمِرَ بِمَنْعِهِ، فَلَمْ يَكُنْ يَصْرِفُ الْأَمْوَالَ إلَّا فِي عِبَادَةِ اللَّهِ وَطَاعَةٍ لَهُ.

وَمِنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ لَا يُورَثُ وَلَوْ كَانَ مَلِكًا، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُورَثُونَ فَإِذَا كَانَ مُلُوكُ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَكُونُوا مُلَّاكًا كَمَا يَمْلِكُ النَّاسُ أَمْوَالَهُمْ، فَكَيْفَ يَكُونُ صَفْوَةُ الرُّسُلِ الَّذِي هُوَ عَبْدٌ رَسُولٌ مَالِكًا.

وَمِنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ

كَانَ يُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ قَدْرَ الْحَاجَةِ، وَيَصْرِفُ سَائِرَ الْمَالِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ لَا يَسْتَفْضِلُهُ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ حَالُ الْمُلَّاكِ، بَلْ الْمَالُ الَّذِي يَتَصَرَّفُ فِيهِ كُلَّهُ هُوَ مَالُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يَصْرِفَ ذَلِكَ الْمَالَ فِي طَاعَتِهِ، فَتَجِبُ طَاعَتُهُ فِي قَسْمِهِ، كَمَا تَجِبُ طَاعَتُهُ فِي سَائِرِ مَا يَأْمُرُ بِهِ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ مُبَلِّغٌ عَنْ اللَّهِ.

وَالْأَمْوَالُ الَّتِي كَانَ يَقْسِمُهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى وَجْهَيْنِ: مِنْهَا: مَا تَعَيَّنَ مُسْتَحِقُّهُ وَمَصْرِفُهُ كَالْمَوَارِيثِ.

وَمِنْهَا: مَا يَحْتَاجُ إلَى اجْتِهَادِهِ وَنَظَرِهِ وَرَأْيِهِ، فَإِنَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْهُ مَا هُوَ مَحْدُودٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>