للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثَالِثٌ لَا هُوَ هَذَا وَلَا هَذَا، كَمَا إذَا اتَّحَدَ الْمَاءُ وَاللَّبَنُ، وَالْمَاءُ وَالْخَمْرُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.

وَلَكِنْ يَتَّحِدُ الْمُرَادُ وَالْمَحْبُوبُ وَالْمَكْرُوهُ وَيَتَّفِقَانِ فِي نَوْعِ الْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهَةِ، فَيُحِبُّ هَذَا مَا يُحِبُّ هَذَا.

وَيَبْغُضُ هَذَا مَا يَبْغُضُ هَذَا، وَيَرْضَى مَا يَرْضَى وَيَسْخَطُ مَا يَسْخَطُ وَيَكْرَهُ مَا يَكْرَهُ، وَيُوَالِي مَنْ يُوَالِي وَيُعَادِي مَنْ يُعَادِي وَهَذَا الْفَنَاءُ كُلُّهُ فِيهِ نَقْصٌ.

وَأَكَابِرُ الْأَوْلِيَاءِ كَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ: لَمْ يَقَعُوا فِي هَذَا الْفَنَاءِ، فَضْلًا عَمَّنْ هُوَ فَوْقَهُمْ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّمَا وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا بَعْدَ الصَّحَابَةِ.

وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ مِنْ هَذَا النَّمَطِ مِمَّا فِيهِ غَيْبَةُ الْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزُ لِمَا يَرِدُ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ أَحْوَالِ الْإِيمَانِ؛ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا أَكْمَلَ وَأَقْوَى وَأَثْبَتَ فِي الْأَحْوَالِ الْإِيمَانِيَّةِ مِنْ أَنْ تَغِيبَ عُقُولُهُمْ.

أَوْ يَحْصُلَ لَهُمْ غَشْيٌ أَوْ صَعْقٌ أَوْ سُكْرٌ أَوْ فَنَاءٌ أَوْ وَلَهٌ أَوْ جُنُونٌ.

وَإِنَّمَا كَانَ مَبَادِئُ هَذِهِ الْأُمُورِ فِي التَّابِعِينَ مِنْ عُبَّادِ الْبَصْرَةِ، فَإِنَّهُ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يُغْشَى عَلَيْهِ إذَا سَمِعَ الْقُرْآنَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُوتُ: كَأَبِي جَهِيرٍ الضَّرِيرِ وَزُرَارَةَ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَاضِي الْبَصْرَةِ.

وَكَذَلِكَ صَارَ فِي شُيُوخِ الصُّوفِيَّةِ مَنْ يَعْرِضُ لَهُ مِنْ الْفَنَاءِ وَالسُّكْرِ مَا يَضْعُفُ مَعَهُ تَمْيِيزُهُ، حَتَّى يَقُولَ فِي تِلْكَ الْحَالِ مِنْ الْأَقْوَالِ مَا إذَا صَحَا عَرَفَ أَنَّهُ غَالِطٌ فِيهِ، كَمَا يُحْكَى نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ مِثْلِ أَبِي يَزِيدَ، وَأَبِي الْحَسَنِ الثَّوْرِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ الشِّبْلِيِّ، وَأَمْثَالِهِمْ.

بِخِلَافِ أَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ، وَمَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ، وَالْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ بَلْ وَبِخِلَافِ الْجُنَيْدِ وَأَمْثَالِهِمْ مِمَّنْ كَانَتْ عُقُولُهُمْ وَتَمْيِيزُهُمْ يَصْحَبُهُمْ فِي أَحْوَالِهِمْ فَلَا يَقَعُونَ فِي مِثْلِ هَذَا الْفَنَاءِ وَالسُّكْرِ وَنَحْوِهِ، بَلْ الْكُمَّلُ تَكُونُ قُلُوبُهُمْ لَيْسَ فِيهَا سِوَى مَحَبَّةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَعِنْدَهُمْ مِنْ سَعَةِ الْعِلْمِ وَالتَّمْيِيزِ مَا يَشْهَدُونَ الْأُمُورَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، بَلْ يَشْهَدُونَ الْمَخْلُوقَاتِ قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ مُدَبَّرَةً بِمَشِيئَتِهِ بَلْ مُسْتَجِيبَةً لَهُ قَانِتَةً لَهُ، فَيَكُونُ لَهُمْ فِيهَا تَبْصِرَةٌ وَذِكْرَى، وَيَكُونُ مَا يَشْهَدُونَهُ مِنْ ذَلِكَ مُؤَيِّدًا وَمُمِدًّا لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ إخْلَاصِ الدِّينِ، وَتَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ لَهُ، وَالْعِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.

وَهَذِهِ " الْحَقِيقَةُ " الَّتِي دَعَا إلَيْهَا الْقُرْآنُ، وَقَامَ بِهَا أَهْلُ تَحْقِيقِ الْإِيمَانِ، وَالْكُمَّلُ مِنْ أَهْلِ الْعِرْفَانِ.

وَنَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إمَامُ هَؤُلَاءِ وَأَكْمَلُهُمْ؛ وَلِهَذَا لَمَّا عُرِجَ بِهِ إلَى السَّمَوَاتِ وَعَايَنَ مَا هُنَالِكَ مِنْ الْآيَاتِ وَأَوْحَى إلَيْهِ مَا أَوْحَى مِنْ أَنْوَاعِ الْمُنَاجَاةِ أَصْبَحَ فِيهِمْ وَهُوَ لَمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>