العفو من الله لهم ثم بتأكيده أخيرا بأن يشركهم في أموره العامة بمشاورتهم وأخذ رأيهم، بل لقوة أثر هذا الخلق في تكوين الشعوب ومعالجة نفوس الأفراد لا يكاد يذكر صلى الله عليه وسلم في القرآن إلا مقرونا بوصفه، والقرآن مليء بالشواهد.
وقال رجل لأبي بكر الصديق رضي الله عنه: لأسبنك سبا يدخل معك قبرك، فقال
له أبو بكر: بل يدخل معك قبرك أنت. وسب رجل أبا العيناء فلم يجبه فقيل له: كيف يسبك وأنت ساكت؟ قال: لا أدخل حربا المغلوب فيها خير من الغالب، وهذا المعنى اللطيف قريب من قول القائل:
وإنك قد ساببتني فغلبتني ... هنيئا مريئا أنت بالسب أحذق
وخطب عمر بن الخطاب يوما فقال: أيها الناس إن رأيتم في اعوجاجا فقوموني، فقال رجل: لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا، فلم تأخذ عمر العزة بالإثم وإنما قال: الحمد لله الذي جعل في رعية عمر من يقوم اعوجاج عمر. وأسمع رجل عمر بن عبد العزيز كلاما قبيحا فقال عمر: لا عليك، إنما أردت أن يستفزني الشيطان بعزة السلطان فأنال منك اليوم ما تناله مني غدا فانصرف غفر الله لك ورحمك، فانصرف وهو يقول:
لن يدرك العز أقوام- وإن كرموا ... حتى يذلوا- وإن عزوا- لأقوام
ويشتموا فترى الألوان كاسفة ... لا صفح ذل ولكن صفح أحلام
ولما حبس معاوية عن الناس أعطياتهم قام إليه أبو مسلم الخولاني وهو يخطب فقال: يا معاوية إن هذا المال ليس لك ولا لأبيك وأمك فلم حبست عن الناس أعطياتهم؟ فغضب ثم نزل فدخل وأومأ إلى الناس: أن أثبتوا ولا تتفرقوا ثم خرج فعاد إلى المنبر وقال: أيها الناس: إن أبا مسلم الخولاني قد قال ما قال فوجدت لذلك وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا غضب أحدكم فليغتسل، وصدق أبو مسلم فاغدوا على أعطياتكم فخذوها على بركات الله.
ولا عجب فمعاوية كان داهية لا يجاري وكان حلمه أحد أدات هذا الدهاء
وكان يقول: إني لألقى الرجل أعلم في قلبه علي ضغنا فأستثيره فيثور إلى منه بقدر ما في نفسه فيوسعنى شتما وأوسعه حلما حتهما يعود صديقا أستنجده فينجدني، وقسم