للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

خامسًا: القرآن كلام الله- المعجز- تكلم الله به بحرف وصوت

والقرآن عند أهل السنة هو كلام الله تعالى حقيقة -حروفًا ومعاني-، وأنه سبحانه تكلم به بحرف وصوت، وسمعه جبريل، وقد تكلم السلف في الحرف والصوت وذكروا أدلته، وتكلموا في حكم من أنكره.

ولكن لما وجد - في أهل البدع - من ينكر الحرف والصوت لينكروا كلام الله، بيَّن السلف أن كلام الله شامل للحروف والمعاني، وأنه تعالى يتكلم بصوت، كما يصفونه بما ورد من التكليم، والمناداة، والمناجاة. (١٧)

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ البخاري (ت: ٢٥٦ هـ) - رحمه الله-:

سَمِعْتُ عُبَيْدَ اللهِ بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ: مَا زِلْتُ أَسْمَعُ أَصْحَابُنَا يَقُولُونَ: إِنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ.

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: حَرَكَاتُهُمْ وَأَصْوَاتُهُمْ وَاكْتِسَابُهُمْ وَكِتَابَتُهُمْ مَخْلُوقَةٌ، فَأَمَّا الْقُرْآنُ الْمَتْلُوُّ الْمُبَيَّنُ الْمُثَبَّتُ فِي الْمُصْحَفِ الْمَسْطُورُ الْمَكْتُوبُ الْمُوعَى فِي الْقُلُوبِ فَهُوَ كَلَامُ اللهِ لَيْسَ بِخَلْقٍ، قَالَ اللَّهُ تعالى: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) (العنكبوت من آية: ٤٨).

وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: فَأَمَّا الأَوْعِيَةُ فَمَنْ يَشُكُّ فِي خَلْقِهَا؟. " (١٨)

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: ٧٢٨: هـ) - رحمه الله-:

" إذَا قَرَأْنَا الْقُرْآنَ فَإِنَّمَا نَقْرَؤُهُ بِأَصْوَاتِنَا الْمَخْلُوقَةِ الَّتِي لَا تُمَاثِلُ صَوْتَ الرَّبِّ، فَالْقُرْآنُ الَّذِي نَقْرَؤُهُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ، مُبَلَّغًا عَنْهُ لَا مَسْمُوعًا مِنْهُ، وَإِنَّمَا نَقْرَؤُهُ بِحَرَكَاتِنَا وَأَصْوَاتِنَا، الْكَلَامُ كَلَامُ الْبَارِي، وَالصَّوْتُ صَوْتُ الْقَارِئِ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مَعَ الْعَقْلِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) (التوبة: ٦) وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " (زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ). (١٩)

قال العلامة ابن القيم (ت: ٧٥١ هـ) - رحمه الله-: في "الكافية الشافية":

"واللهُ رَبِّي لم يَزَلْ مُتَكَلِّمًا … وكَلامُه المسموعُ بالآذانِ

صِدقًا وعَدْلاً أُحْكِمَتْ كَلماتُه … طَلَبًا وإخبارًا بلا نُقصانِ. (٢٠)

وقال الشيخ حافظ حَكَمي (ت: ١٣٧٧: هـ) - رحمه الله-:

وَالْقَوْلُ فِي كِتَابِهِ الْمُفَصَّلْ … بِأَنَّهُ كَلَامُهُ الْمُنَزَّلْ

عَلَى الرَّسُولِ الْمُصْطَفَى خَيْرِ الْوَرَى … لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ وَلَا بِمُفْتَرَى

يُحْفَظُ بِالْقَلْبِ وَبِاللِّسَانِ … يُتْلَى كَمَا يُسْمَعُ بِالْآذَانِ

كذَا بِالَابْصَارِ إِلَيْهِ يُنْظَرُ … وَبِالْأَيَادِي خَطُّهُ يُسَطَّرُ

وَكُلُّ ذِي مَخْلُوقَةٌ حَقِيقَهْ … دُونَ كَلَامِ بَارِئِ الْخَلِيقَهْ

جَلَّتْ صِفَاتُ رَبِّنَا الرَّحْمَنِ … عَنْ وَصْفِهَا بِالْخَلْقِ وَالْحَدَثَانِ

فَالصَّوْتُ وَالْأَلْحَانُ صَوْتُ الْقَارِي … لَكِنَّمَا الْمَتْلُوُّ قَوْلُ الْبَارِي

مَا قَالَهُ لَا يَقْبَلُ التَّبْدِيلَا … كَلَّا وَلَا أَصْدَقُ مِنْهُ قِيلَا. (٢١)


(١٧) - المرجع السابق: (٦/ ٥١٨).
(١٨) - يُنظر: خلق أفعال العباد: (٢/ ٧٠).
(١٩) - صححه الألباني، سلسلة الأحاديث الصحيحة (٢/ ٢٧٠)، ويُنظر تخريجه في البدر المنير (٩/ ٦٣٧)، يُنظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية: (١٢/ ٩٨)، ونفس المصدر: (١٢/ ٥٣).
(٢٠) - مِنْ "الكافية الشافية": (البيتان: ٥٥٦ - ٥٥٧).
(٢١) - يُنظر: منظومة سُلَّمُ الوصولِ إلى علمِ الأصولِ في علمِ التوحيد، لحافظ أحمد حكمي، نسخة مصححة عن: مركز جنات للدراسات، (الأبيات من: ٥٢ - ٥٩)

<<  <   >  >>