للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومن هذا الباب حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) غَزْوَةً قِبَلَ نَجْدٍ، فَأَدْرَكَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ (١) ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) تَحْتَ شَجَرَةٍ فَعَلَّقَ سَيْفَهُ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا. قَالَ: وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْوَادِي يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَسَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مُعَلَّقٌ بِشَجَرَةٍ، فَأَخَذَ سَيْفَ نَبِيِّ اللَّهِ (فَاخْتَرَطَهُ (٢) ، فَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : أَتَخَافُنِي؟ قَالَ: «لَا» . قَالَ: فَمَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: «اللَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْكَ» . وَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ دَعَانَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَجِئْنَا، فَإِذَا أَعْرَابِيٌّ قَاعِدٌ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ: «إِنَّ هَذَا أَتَانِي وَأَنَا نَائِمٌ فَاخْتَرَطَ سَيْفِي، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِي مُخْتَرِطٌ صَلْتًا (٣) ، قَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قُلْتُ: «اللَّهُ، فَشَامَهُ -يعني أدخله في غمده- ثُمَّ قَعَدَ فَهُوَ هَذَا» . قَالَ: وَلَمْ يُعَاقِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)) (٤) .

(ومن أعظم الوقائع تصديقا لهذا النبأ الحق، ذلك الموقف المدهش الذي وقفه النبي (صلى الله عليه وسلم) في غزوة حنين، منفرداً بين الأعداء، وقد انكشف المسلمون وولوا مدبرين، فطفق هو يركض بغلته إلى جهة العدو، والعباس بن عبد المطلب آخذ بلجامها يكفها إرادة ألا تسرع، فأقبل المشركون إلى رسول الله (، فلما غشوه لم يفر ولم ينكص، بل نزل عن بغلته كأنما يمكنهم من نفسه، وجعل يقول: «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب» (٥) . كأنما يتحداهم ويدلهم على مكانه، فوالله ما نالوا منه نيلا، بل أيده الله بجنده، وكف عنه أيديهم بيده) (٦) .

ومن لطيف الاستدلال - في هذا المقام - استدلال بعضهم لصدقه بزواجه من أكثر من تسع نسوة؛ ووجه ذلك أن الإنسان الكاذب قد يستطيع أن يتحرز من الناس في حياته الخارجية، بحيث لا يستطيع أحد أن يجد عليه كذبا، لكن هذا لا يحصل للإنسان مع زوجته؛ فإن العادة جرت بسقوط كلفة وانبساط الرجل مع أهله، وزوجته أعلم الناس بحاله، فلما كان احتمال أن هذه الزوجة تتواطأ مع زوجها في إخفاء كذبه؛ إذن للنبي (أن يكثر من الأزواج، فالنبي (صلى الله عليه وسلم) مع كثرة أزواجه لم تنقل إحداهن عن حياته الخاصة إلا كل كمال يمكن أن يوصف به إنسان، فلو أمكن أن تتواطأ واحدة، فإنه لا يمكن أن يتواطأن كلهن على ستر كذبه، وإخفاء عيبه فهذا في غاية من البعد، لاسيما أن بعضهن كصفية بنت حيي بن أخطب، التي تزوجها بعد أن حارب قومها، وقتل منهم الكثير، ثم سباها ثم أعتقها وتزوجها، وأم حبيبة كان متزوجا لها وهو يحارب أباها أبا سفيان، وجويرية بنت الحارث كانت من سبايا بني المصطلق، ثم أعاناها على مكاتبتها وتزوجها (٧) ، ألم يكن لهؤلاء النسوة أكبر دافع للثأر منه، ولو بتشويه صورته حتى لو بعد موته؟ بلى، ولكن كل هذا لم يحصل فدل على صدقه.

فهذا خلق واحد من أخلاقه (اُستدل به على صحة نبوته؛ فما بالك بأخلاقه الأخرى.

[المطلب السادس: جوابه الحاضر على أسئلة المشككين:]

لقد كان من أدلة صدق النبي (صلى الله عليه وسلم) جوابه الحاضر على الأسئلة المفاجئة التي كان يواجهه بها المشككون في صدقه، ولا يتأتى ذلك لشخص كاذب مهما أوتي من فطنة، بل لا يصدر إلا عن نبي مؤيد بوحي من السماء، فمن أمثلة ذلك.


(١) العِضَاهُ: كل شجرة له شوك صغُر أو كبُر. واحدته: عِضَاهَةُ. المعجم الوسيط (ع ض و)
(٢) اخترط السيف: اسْتَلَّه. القاموس المحيط (خ ر ط)
(٣) سيفُ صَلْت: صقيلُ ماضٍ. والصَّلْت: البارز. المعجم الوسيط (ص ل ت)
(٤) متفق عليه (البخاري: كتاب المغازي، باب: غزوة بني المصطلق، رقم: ٣٩٠٨، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الخوف، رقم:٨٤٣) .
(٥) متفق عليه (البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب: من قال خذها وأنا ابن فلان، رقم:٢٨٧٧، ومسلم: كتاب الجهاد والسير، باب في غزوة حنين، رقم:١٧٧٦) .
(٦) النبأ العظيم، للعلامة د. محمد عبد الله دراز، ص:٤٩) .
(٧) انظر في ترجمة أمهات المؤمنين: روائع البيان في تفسير آيات الأحكام من القرآن، لمحمد علي الصابوني (ص:٣٠٧-٣١٦) .

<<  <   >  >>