بَابُ تَحْرِيمِ الْقِمَارِ وَاللَّعِبِ بِالنَّرْدِ وَمَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ
ــ
[نيل الأوطار]
مَعْمَرٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، وَأَحْسَبُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: «صَارَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا رُكَانَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ شَدِيدًا، فَقَالَ: شَاةً بِشَاةٍ، فَصَرَعَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: عَاوِدْنِي فِي أُخْرَى، فَصَرَعَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: عَاوِدْنِي، فَصَرَعَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثَّالِثَةَ، فَقَالَ أَبُو رُكَانَةُ: مَاذَا أَقُولُ لِأَهْلِي؟ شَاةٌ أَكَلَهَا الذِّئْبُ، وَشَاةٌ نَشَزَتْ، فَمَا أَقُولُ فِي الثَّالِثَةِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا كُنَّا لِنُجْمِعَ عَلَيْكَ أَنْ نَصْرَعَكَ فَنُغَرِّمَكَ، خُذْ غَنَمَكَ» هَكَذَا وَقَعَ فِيهِ أَبُو رُكَانَةُ، وَالصَّوَابُ رُكَانَةُ وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الثَّانِي فِي إسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ اللَّيْثِيُّ اسْتَشْهَدَ بِهِ مُسْلِمٌ وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: أَرْجُو أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ مَرَّةً: مَا زَالَ النَّاسُ يَتَّقُونَ حَدِيثَهُ. وَقَالَ السَّعْدِيُّ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ. وَغَمَزَهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ وَقَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: سَأَلْتُ يَحْيَى الْقَطَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ كَيْفَ هُوَ؟ قَالَ: تُرِيدُ الْعَفْوَ أَوْ تُشَدِّدُ؟ قُلْتُ: بَلْ أُشَدِّدُ، قَالَ: فَلَيْسَ هُوَ مِمَّنْ تُرِيدُ. قَوْلُهُ: (حَتَّى إذَا أَرْهَقَنِي اللَّحْمُ) أَيْ كَثُرَ لَحْمِي، قَالَ فِي الْقَامُوسِ أَرْهَقَهُ طُغْيَانًا غَشَّاهُ إيَّاهُ، وَقَالَ: رَهِقَهُ كَفَرِحَ غَشِيَهُ.
وَفِي الْحَدِيثَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْمُسَابَقَةِ عَلَى الْأَرْجُلِ وَبَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ الْمَحَارِمُ وَأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يُنَافِي الْوَقَارَ وَالشَّرَفَ وَالْعِلْمَ وَالْفَضْلَ وَعُلُوَّ السِّنِّ فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَتَزَوَّجْ عَائِشَةَ إلَّا بَعْدَ الْخَمْسِينَ مِنْ عُمُرِهِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْخَلَاءِ وَالْمَلَأِ لِمَا فِي حَدِيثِ سَلَمَةَ.
قَوْلُهُ: (أَنَّ رُكَانَةُ صَارَعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْمُصَارَعَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ وَهَكَذَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا سِيَّمَا إذَا كَانَ مَطْلُوبًا لَا طَالِبًا، وَكَانَ يَرْجُو حُصُولَ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ بِذَلِكَ أَوْ كَسْرَ سُورَةِ كِبْرِ مُتَكَبِّرٍ أَوْ وَضْعَ مُتَرَفِّعٍ بِإِظْهَارِ الْغَلَبِ لَهُ، وَكَمَا رُوِيَ مِنْ مُصَارَعَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُكَانَةُ رُوِيَ أَنَّهُ تَصَارَعَ هُوَ وَأَبُو جَهْلٍ قَالَ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ: مَا رُوِيَ مِنْ مُصَارَعَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا جَهْلٍ لَا أَصْلَ لَهُ.
وَحَدِيثُ رُكَانَةُ أَمْثَلُ مَا رُوِيَ فِي مُصَارَعَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلُهُ: (يَلْعَبُونَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحِرَابِهِمْ) فِيهِ جَوَازُ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ. وَحَكَى ابْنُ التِّينِ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ اللَّخْمِيِّ أَنَّ اللَّعِبَ بِالْحِرَابِ فِي الْمَسْجِدِ مَنْسُوخٌ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ. أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور: ٣٦] وَأَمَّا السُّنَّةُ فَحَدِيثُ: «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ» وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ وَلَيْسَ فِيهِ وَلَا فِي الْآيَةِ تَصْرِيحٌ بِمَا ادَّعَاهُ وَلَا عُرِفَ لِلتَّارِيخِ فَيَثْبُتُ النَّسْخُ وَحَكَى بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَنْ مَالِكٍ " أَنَّ لَعِبَهُمْ كَانَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ وَكَانَتْ عَائِشَةُ فِي الْمَسْجِدِ "، وَهَذَا لَا يَثْبُتُ عَنْ مَالِكٍ فَإِنَّهُ خِلَافُ مَا صُرِّحَ بِهِ فِي طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ. وَاللَّعِبُ بِالْحِرَابِ لَيْسَ لَعِبًا مُجَرَّدًا بَلْ فِيهِ تَدْرِيبُ الشُّجْعَانِ عَلَى مَوَاقِعِ الْحُرُوبِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِلْعَدُوِّ.
قَالَ الْمُهَلَّبُ: الْمَسْجِدُ مَوْضُوعٌ لِأَمْرِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَمَا كَانَ مِنْ الْأَعْمَالِ يَجْمَعُ مَنْفَعَةَ الدِّينِ وَأَهْلِهِ جَازَ فِيهِ، وَفِي الْحَدِيثِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute