١٠٢ - (وَعَنْ ابْن عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِقَبْرَيْنِ، فَقَالَ: إنَّهُمَا يُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ وَالنَّسَائِيُّ، " وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ "، ثُمَّ قَالَ: " بَلَى كَانَ أَحَدُهُمَا "، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ)
ــ
[نيل الأوطار]
الْمُخَاطَبِينَ، وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ كَبِيرٌ. وَقِيلَ إنَّهُ لَيْسَ بِكَبِيرٍ فِي مَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ أَيْ كَأَنْ لَا يَشُقَّ عَلَيْهِمَا الِاحْتِرَازُ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا الْأَخِيرُ جَزَمَ بِهِ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ وَرَجَّحَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَجَمَاعَةٌ. وَقِيلَ: لَيْسَ بِكَبِيرٍ بِمُجَرَّدِهِ وَإِنَّمَا صَارَ كَبِيرًا بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهِ وَيُرْشِدُ إلَى ذَلِكَ السِّيَاقُ فَإِنَّهُ وَصَفَ كُلًّا مِنْهُمَا بِمَا يَدُلّ عَلَى تَجَدُّدِ ذَلِكَ مِنْهُ وَاسْتِمْرَارِهِ عَلَيْهِ لَلْإِتْيَانِ بِصِيغَةِ الْمُضَارَعَةِ بَعْدَ كَانَ. ذَكَرَ مَعْنَاهُ فِي الْفَتْحِ.
وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى نَجَاسَةِ الْبَوْلِ مِنْ الْإِنْسَانِ وَوُجُوبِ اجْتِنَابِهِ وَهُوَ إجْمَاعٌ، وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى عِظَمِ أَمْرِهِ وَأَمْرِ النَّمِيمَةِ، وَأَنَّهُمَا مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ عَذَابِ الْقَبْرِ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى النَّمِيمَةِ الْمُحَرَّمَةِ، فَإِنَّ النَّمِيمَةَ إذَا اقْتَضَى تَرْكُهَا مَفْسَدَةً تَتَعَلَّقُ بِالْغَيْرِ أَوْ فِعْلُهَا نَصِيحَةٌ يَسْتَضِرُّ الْغَيْرُ بِتَرْكِهَا لَمْ تَكُنْ مَمْنُوعَةً، كَمَا نَقُولُ فِي الْغِيبَةِ إذَا كَانَتْ لِلنَّصِيحَةِ أَوْ لِدَفْعِ الْمَفْسَدَةِ لَمْ تُمْنَعْ وَلَوْ أَنَّ شَخْصًا اطَّلَعَ مِنْ آخَرَ عَلَى قَوْلٍ يَقْتَضِي إيقَاعَ ضَرَرٍ بِإِنْسَانٍ فَإِذَا نُقِلَ إلَيْهِ ذَلِكَ الْقَوْلُ احْتَرَزَ عَنْ ذَلِكَ الضَّرَرِ لَوَجَبَ ذِكْرُهُ لَهُ انْتَهَى.
وَالْحَدِيثُ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى إثْبَاتِ عَذَابِ الْقَبْرِ وَقَدْ جَاءَتْ الْأَحَادِيثُ الْمُتَوَاتِرَةُ بِإِثْبَاتِهِ. وَخِلَاف بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَبَاطِيلِ الَّتِي لَا مُسْتَنَدَ لَهَا إلَّا مُجَرَّدَ الْهَوَى.
(فَائِدَةٌ) لَمْ يُعْرَفْ اسْمُ الْمَقْبُورَيْنِ وَلَا أَحَدُهُمَا وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى عَمْدٍ مِنْ الرُّوَاةِ لِقَصْدِ السَّتْرِ عَلَيْهِمَا، وَهُوَ عَمَلٌ مُسْتَحْسَنٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُبَالَغَ فِي الْفَحْصِ عَنْ تَسْمِيَةِ مَنْ وَقَعَ فِي حَقِّهِ مَا يُذَمُّ بِهِ.
وَمَا حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي التَّذْكِرَةِ وَضَعَّفَهُ أَنَّ أَحَدَهُمَا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ الْحَافِظُ: إنَّهُ قَوْلٌ بَاطِلٌ لَا يَنْبَغِي ذِكْرُهُ إلَّا مَقْرُونًا بِبَيَانِهِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْحِكَايَةِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَضَرَ دَفْنَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. وَأَمَّا قِصَّةُ الْمَقْبُورَيْنِ فَفِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُمْ: (مَنْ دَفَنْتُمْ الْيَوْمَ هَهُنَا) فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْهُمَا، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْمَقْبُورَيْنِ فَقِيلَ: كَانَا كَافِرَيْنِ وَبِهِ جَزَمَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ وَاسْتَدَلَّ بِمَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَرَّ عَلَى قَبْرَيْنِ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ هَلَكَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ» وَفِي إسْنَادِهِ ابْنُ لَهِيعَةَ. وَجَزَمَ ابْنُ الْعَطَّارِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ بِأَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ قَالَ: لِأَنَّهُمَا لَوْ كَانَا كَافِرَيْنِ لَمْ يَدْعُ لَهُمَا بِتَخْفِيفِ الْعَذَابِ وَلَا تَرَجَّاهُ لَهُمَا، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ لَبَيَّنَهُ كَمَا فِي قِصَّةِ أَبِي طَالِبٍ.
قَالَ الْحَافِظُ: الظَّاهِرُ مِنْ مَجْمُوعِ طُرُقِ حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ فَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ: «مَرَّ بِقَبْرَيْنِ جَدِيدَيْنِ» فَانْتَفَى كَوْنُهُمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
وَفِي حَدِيث أَبِي أُمَامَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِالْبَقِيعِ فَقَالَ: مَنْ دَفَنْتُمْ الْيَوْمَ هَهُنَا» كَمَا تَقَدَّمَ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ لِأَنَّ الْبَقِيعَ مَقْبَرَةُ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ: «يُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، وَبَلَى وَمَا يُعَذَّبَانِ إلَّا فِي الْغِيبَةِ وَالْبَوْلِ» فَهَذَا الْحَصْرُ يَنْفِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute