فأصاب الأعرابي وعك بالمدينة فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد! أقلني بيعتي، فأبى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم جاءه فقال: أقلني بيعتي فأبى، ثم جاءه فقال: أقلني بيعتي فأبى، فخرج الأعرابي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما المدينة كالكير تنفي خبثها
ــ
على الإسلام والمعاهدة كائن كل واحد منهما باع ما عنده من صاحبه وأعطاه خلاصة نفسه وطاعته ودخيلة أمره، وزاد في رواية البخاري ((على الإسلام)) (فأصاب الأعرابي وعك) بفتح الواو وسكون المهملة وقد تفتح بعدها كاف الحمى، وقيل المها، وقيل إرعادها. وقال الأصمعي: أصله شدة الحر، فأطلق على الحمى وشدتها، كذا في الفتح. وفي رواية للبخاري فجاء من الغد محمومًا (أقلني بيعتي) استعارة من إقالة البيع وهو إبطاله، قال القسطلاني:(أقلني بيعتي)) أي على الإسلام. وقال السمهودي: أقلني بيعتي أي انقض العهد حتى أرجع إلى وطني، وكأنه قد بايع على هجرة الإقامة، وقال الحافظ في الحج: قوله ((فبايعه على الإسلام)) إلخ. ظاهره لأنه سأل الإقالة من الإسلام، وبه جزم عياض، وقال غيره إنما استقاله من الهجرة وإلا لكان قتله على الردة، يعني أنه لم يرد الأعرابي الارتداد عن الإسلام، قال ابن بطال بدليل أنه لم يرد حل ما عقده إلا بموافقة النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، ولو أراد الردة ووقع فيها لقتله إذ ذاك ولكنه خرج عاصيًا، وقال الحافظ في الأحكام: قوله ((على الإسلام)) ظاهر في أن طلبه الإقالة كان فيما يتعلق بنفس الإسلام ويحتمل أن يكون في شيء من عوارضه كالهجرة وكانت في ذلك الوقت واجبة ووقع الوعيد على من رجع أعرابيًا بعد هجرته (فأبى) أي امتنع (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أن يقيله، قال النووي: قال العلماء: إنما لم يقله النبي - صلى الله عليه وسلم - بيعته لأنه لا يجوز لمن أسلم أن يترك الإسلام ولا لمن هاجر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - للمقام عنده أن يترك الهجرة ويذهب إلى وطنه أو غيره، قالوا: وهذا الأعرابي كان ممن هاجر وبايع النبي - صلى الله عليه وسلم - على المقام معه، قال القاضي: ويحتمل أن بيعة هذا الأعرابي كانت بعد فتح مكة وسقوط الهجرة إليه - صلى الله عليه وسلم -، وإنما بايع على الإسلام وطلب الإقالة منه فلم يقله، والصحيح الأول – انتهى كلام النووي. وقال ابن التين: إنما امتنع النبي - صلى الله عليه وسلم - من إقالته لأنه لا يعين على معصية، لأن البيعة في أول الأمر كانت على أن لا يخرج من المدينة إلا بإذن، فخروجه عصيان، قال: وكانت الهجرة فرضًا قبل فتح مكة على كل من أسلم ومن لم يهاجر لم يكن بينه وبين المؤمنين مولاة لقوله تعالى {والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا}(سورة الأنفال: الآية ٧٣) فلما فتحت مكة قال - صلى الله عليه وسلم -: لا هجرة بعد الفتح)) ففي ها إشعار بأن مبايعة الأعرابي المذكورة كانت قبل الفتح – انتهى. (فخرج الأعرابي) أي من المدينة راجعًا إلى البدو (إنما المدينة كالكير تنفي) بفتح أوله (خبثها) بمعجمة وموحدة مفتوحتين. قال السمهودي: قوله ((تنفي خبثها)) يحتمل أن يكون بمعنى الطرد والإبعاد