للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والأمثلة على وقوف السلف عند حدود المعرفة الواجبة وتَرْك التكلف فيما بعد ذلك كثيرة.

وعلى هذا مضى المسلمون في العصر الأول من الإسلام، عرفوا ما للعقل فدرسوه، وما ليس له فاجتنبوه؛ بل اجتنبوا مَن عُرف بالأهواء والسؤال عن المتشابه، فهذا "صبيغ بن عسل" جعل يسأل عن متشابه القرآن في أجناد المسلمين حتى قَدِمَ مصر؛ فبعث عمرو بن العاص به إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- فلما أتاه الرسول بالكتاب فقرأه قال: أين الرجل؟ أبصر لا يكون ذهب فتصيبك مني العقوبة الوجيعة، فأتى به؛ فقال عمر: سبيل محدثة؛ فضربه وأعاده إلى أرضه، وكتب إلى أبي موسى الأشعري: ألا يجالسه أحد من المسلمين، قال أبو عثمان النهدي: فلو جاءنا ونحن مائة لتفرقنا عنه١.

ثم لم تزل هذه الأمور تتسع حتى تكلم معبد بن خالد الجهني في القَدَر، فقال: "لا قَدَر والأمر أُنُف"٢، وقد أخذ عن معبد هذا غيلان الدمشقي٣ -الذي نشره بين المسلمين، وقُتل من أجله- وقد أنكر عليهم مذهبهم هذا مَن كانه حيًّا من الصحابة؛ كعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله، وأبي هريرة، وابن عباس، وأنس بن مالك، وعبد الله بن أبي أوفى، وعقبة بن عامر الجهني٤.

وأساس مذهب القدرية إنكار القدر، وأن للإنسان الحرية المطلقة في أفعاله، لا سلطان لأحد على إرادته.

وفي مقابل هؤلاء نشأت فرقة أخرى تقول بأن الإنسان مجبور على الفعل، لا اختيار له ولا قدرة؛ كالريشة في الهواء، وتعددت الفِرَق بعد هذا وافترقت.


١ تهذيب تاريخ ابن عساكر: هذَّبه عبد القادر بن أحمد الدومي المعروف بابن بدران ج٦ ص٣٨٥.
٢ تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري: لابن عساكر الدمشقي ص١٠.
٣ تهذيب التهذيب: ابن حجر ج١ ص٢٣٦.
٤ الفَرْق بين الفِرَق: عبد القاهر البغدادي ص١٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>