يجعل البلغاء على تفاوتهم فيما بينهم، وعلى اختلاف عصورهم وأسبابهم المتلاحقة، وكأنهم معه طبقة واحدة وفي طوقٍ واحد من العجز؛ يعنيهم طلبه، ويعنِتهم إدراكه ويعرفون تركيبه ثم لا يجدون له مأتى من النفس ولا وجهاً من القدرة فذلك هو الكلام المعجز، بل هو معجزة الطبيعة
الكلامية التي لم تعرف في تاريخ أمة من أمم الأرض، ولا عرف أن بلغاء أمة من أمم الكلام قد أقروا وأجمعوا عليها إجماعاً يتوارثونه علماً ونظراً على انفساح التاريخ وتعاقب الأجيال، إلا ما كان
من ذلك في القرآن، وما لا يزال الإجماع منعقداً عليه ما بقي في الأرض لفظ من العرب.
وإنما اطرد ذلك للقرآن من جهة تركيبه الذي انتظم أسباب الإعجاز من الصوت في الحرف، إلى الحرف في الكلمة، إلى الكلمة في الجملة، حتى يكون الأمر مقدراً على تركيب الحواس
النفسية في الإنسان تقديراً يطابق وضعَها وقواها وتصرفها، وذلك إيجاد خلقي لا قِبَل للناس به ولم يتهيأ إلا في هذه العربية عن طريق المعجزة التي لا تكون معجزة حتى تخرق العادة، وتفوت المألوف، وتعجز الطوقَ، وإنما امتنع أن يكون في مقدور الخلق، لأنه تفصيل للحروف على
النحو الذي يأخذه فيه تركيب الحياة، من تناسب الأجزاء في الدقيق والجليل، وقيام بعضها ببعض لا يغني منها شيء عن شيء في أصل التركيب وحكمته ولا يرد غيرها مردها ولا يأتلف ائتلافها
ولا يجري فيها إلى نحو ذلك مما أجرى الله عليه نشءَ الخلق وبعث الحياة، ثم اشتمالها على سر التركيب المكنون الذي جعل البلغاء منها بمنزلة الأطباء في سعة العلم بتركيب الأجسام الحية من
الخلية فما فوقها، دون العلم بالوجه الذي يمكن به التركيب، على أنهم لا يفوتهم شيء من دقائقه ولا يعزب عنهم مثقال ذرة من مادته، وهي بعد مبذولة لهم يقبلونها وششوضحونها ويزدادون بها
على الدهر خبرة، ثم ينصرفون عنها وهم في العلم غير من كانوا وهي لا تزال عندهم على ما كانت!
ولم نرَ شيئاً كان أمره مع العلم ذلك الأمر إلا أن يكون إلهياً، فقد فرغ الناس من كل ما وضع الناس، وعارض بعضهم بعضها، وأبرّ بعضهم على بعض ولم يسلم للمتقدم من الفضل على المتأخر إلا فضيلة احترام الموت واستحياء التاريخ، وقد بدِّلت الأرض غير الأرض وليس فيها من
أثر واحد لم يتناوله ناموس النشوء بالنقض من إحدى جهاته على هرم الدهر وتقادمه، غير القرآن فإنه طبقة وحده في إعجاز تركيبه وسلامة معانيه، لم تنقض منه آية ولا كلمة ولا ما دون الكلمة،
ولا ذُكر معه شيء من كلام البلغاء.
ولا عورض به ولا أزيل عن موضعه، ولا وزنه عقل إلا كان
مرجوحاً أبداً، وما أراده أحد إلا أراده بغير طريقته، ولا بحث عن طريقته إلا عي بإدراكها وبَعل بها ولم يدر ما هي ولا كيف هي ولا من أين يأتي لها، وصار أمره نشراً لا نظام له وعاد علمه جهلاً لا بصيرة معه:
ولعمري إنه لشى في العجائب كلها شيء أعجب من إمكان أن يكون القرآن
مع هذا الإعجاز كله غير معجز. . .!
ولقد كانت هذه الطريقة المعجزة التي نزل بها القرآن هي السبب في حفظ العربية واستخراج علومها؛ وما كان أصل ذلك إلا التحدي بها، فإن من حكمة هذا التحدي أن يدعوَهم إلى النظر في