جنوِناً ولا يقول آمنت بالله رباً وبمحمد نبياً وبالقرآن معجزة؛ وتأمل كيف عئر عن الآجر بقوله:
(فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ) وانظر موقع هذه القلقلة التي هي في الدال من قوله (فَأَوْقِدْ) وما يتلوها من رقة اللام، فإنها في أثناء التلاوة مما لا يطاق أن يعبر عن حسنه، وكأنما تنتزع النفس انتزاعاً.
وليس الإعجاز في اختراع تلك العبارة فحسب، ولكن ما ترمي إليه إعجاز آخر؛ فإنها تحقر شأن فرعون، وتصف ضلاله، وتسفه رأيه، إذ طمع أن يبلغ الأسبابَ أسباب السموات فيطلع إلى
إله موسى، وهو لا يجد وسيلة إلى ذلك المستحيل ولو نصَبَ الأرض سلماً، إلا شيئاً يصنعه هامان من الطين. . .!
وما يشذ في القرآن الكريم حرف واحد عن قاعدة نظمه المعجز؛ حتى إنك لو تدبرت الآيات التي لا تقرأ فيها إلا ما يسرده من الأسماء الجامدة، وهي بالطبع مظنة أن لا يكون فيها شيء من دلائل الإعجاز؛ فإنك ترى إعجازها أبلغ ما يكون في نظمها وجهات سردها، ومن تقديم
اسم على غيره أو تاخيره عنه، لنظم حروف ومكأنه من النطق في الجملة؛ أو لنكتة أخرى من نكت المعاني التي وردت فيها الآية بحيث يوجد شيئاً فيما ليس فيه شيء.
تأمل قوله تعالى: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ)
فإنها خمسة أسماء، أخفها في اللفظ (الطوفان والجراد والدم) وأثقلها (الْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ) فقدم (الطوفان)
لمكان المدين فيها؛ حتى يأنس اللسان بخفتها؛ ثم الجراد وفيها كذلك مد؛ ثم جاء باللفظين الشديدين مبتدئاً بأخفهما في اللسان وأبعدهما في الصوت لماكن تلك الغُنة فيه؛ ثم جيء بلفظة (الدم) آخراً، وهي أخف الخمسة وأقلها حروفاً؛ ليسرع اللسان فيها ويستقيم لها ذوق النظم ويتم
بها هذا الإعجاز في التركيب.
وأنت فمهما قلَّبتَ هذه الأسماء الخمسة، فإنك لا ترى لها فصاحة إلا في هذا الوضع؛ لو قدمت أو أخرت لبادرك التهافت والتعثر، ولأعنتكَ أن تجيء منها بنظم فصيح، ثم لا ريب أحالك ذلك عن قصد الفصاحة وقطَعَك دون غايتها.
ثم لخرجَتِ الأسماء في اضطراب النطق على ذلك بالسواء؛
ليس يظهر أخفها من أثقلها؛ فانظر كيف يكون الإعجاز فيها
ليس فيه إعجاز بطبيعته.